السبت، 31 يناير 2015

السيرة النبوية لراغب السرجانى (الطريق الى بدر )

شرع الله سبحانه القتال لاسترداد الحقوق وحفظ حوزة الإسلام ونشر الدين، ولكنه كان على مراحل تتلاءم مع نمو قوة المسلمين، ومن حكم مشروعيته تمييز الخبيث من الطيب، وتربية النفوس المؤمنة على استرداد حقها والمحافظة على كرامتها.
مرحلة الإذن للمسلمين بالقتال
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد: فمع الدرس الخامس من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.
في الدروس السابقة تحدثنا عن الظروف التي بدأ فيها صلى الله عليه وسلم إنشاء دولته، وتحدثنا عن علاقته مع الطوائف المختلفة التي عاصرت هذا القيام، سواء كانوا من المسلمين أو من المشركين أو من اليهود.
ورأينا أن العلاقة كانت متأزمة إلى حد كبير جداً مع مشركي المدينة ومع اليهود، وكذلك موقف قريش كان شديد العداوة.
نريد أن نقف وقفة ونحلل موقف الرسول عليه السلام في هذا الوقت.
وقد مر علينا تقريباً ستة أشهر من ساعة بدء المرحلة المدنية من السيرة النبوية.
الوضع داخل المدينة كان فيه شيء من الاستقرار، لكنه استقرار على بركان قابل للانفجار في أية لحظة.
فالمسلمون في هذا الوقت يحكمون المدينة المنورة، لكن هناك قوى خطيرة جداً ما زالت تنتشر في المدينة، وهذه القوى كانت قوى موزعة ما بين مشرك لا يؤمن بالله عز وجل، مثل عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين، أو يهودي منحرف علم الحق واتبع غيره.
والوضع خارج المدينة أيضاً كان فيه بعض الاستقرار، لكن هناك اضطرابات كثيرة أيضاً، وهناك معاهدات مع بعض القبائل المحيطة بالمدينة، لكن تهديد قريش للمدينة كان مستمراً.
فعلاقات قريش بالأعراب حول المدينة كانت قوية، ولا يستبعد أبداً أن يحدث هجوم قرشي شامل على المدينة المنورة بتعاون مع الأعراب أو مع المشركين داخل المدينة أو مع اليهود أو مع غيرهم.
فماذا يحدث إن بوغت المسلمون بهذا الهجوم؟ القتال حتى هذه اللحظة كان منهياً عنه، ولو حدث أن هجم المشركون فإن القاعدة التي كانت سارية في مكة: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94].
لكن الوضع في هذا الوقت تغير، والمسلمون الآن أصبح لهم شوكة، وأصبح لهم كيان ودولة، ولا يستقيم لمن أراد أن يقيم دولة إلا أن يكون قادراً على الدفاع عنها، لكن كيف يكون الدفاع، ولم ينزل الأمر بالقتال بعد؟ نزل حكم الله عز وجل بالإذن بالقتال للمسلمين، وتغير الوضع كله وتغيرت المرحلة، نزل قول الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39].
فالتشريع في غاية الإحكام ليس عشوائياً أبداً، بل هناك فقه المرحلة.
فالمرحلة السابقة في مكة كانت تستلزم الكف والإعراض، أما هذه المرحلة فتستلزم الإذن بالقتال فقط وليس الفرض، فالإذن حسب الاستطاعة للقتال وحسب التقدير للقوة، لكن حينما يكون فرضاً فليس للمسلمين إلا أن يقاتلوا.
وسنلاحظ التدرج الجميل في التربية، فإنه لا يحمل الناس مرة واحدة على شيء يركونه.
فالناس بصفة عامة تكره القتال، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216].
فبما أن عامة الناس تكره القتال كان هناك نوع من التدرج، المرحلة الأولى إعراض، وهذه المرحلة إذن، وبعد ذلك فرض، وبعد ذلك قتال عامة الناس الذين يصدون عن سبيل الله.
الاستراتيجية التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم لضرب مقدرات قريش ومهاجمة قوافلها
هذا الإذن بالقتال كان بداية تغير استراتيجي محوري مهم في خط سير المدينة المنورة، فقد أذن للمسلمين الآن أن يرفعوا عن أنفسهم الظلم الذي وقع عليهم، إن رأوا أن قدرتهم تسمح لهم بهذا.
فمن هو الذي ظلم المسلمين؟ إن الذي أوقع عليهم الظلم في الأساس هم أهل مكة الكافرين، ولم يكن الظلم من شخص واحد، بل كان ظلماً متعدداً مركباً.
ظلم في الجسد، بالتعذيب والحرق والإغراق والقتل أحياناً.
ظلم في المال بمصادرته بدون وجه حق، واغتصابه بالقوة.
ظلم في الديار في الطرد منها وأخذها، بل وبيعها وأكل ثمنها.
ظلم في النفس بالسب والقذف وتشويه السمعة.
ظلم في الحرية بالحبس والعزل عن المجتمع، ظلمات بعضها فوق بعض.
فماذا يعمل المسلمون حتى يرفعوا هذا الظلم عن أنفسهم؟ لو هجموا على مكة، قد لا يكون هذا أمراً حكيماً في ذلك التوقيت، إذ قوة المسلمين ما زالت ناشئة، وأعداد المسلمين ما زالت قليلة، والمدينة مضطربة بالمشركين واليهود، وليس من الممكن أن نترك المدينة لقتال أهل مكة، وفيها عدد هائل من المشركين واليهود الذين لم يؤمنوا بعد.
إذاً: الحل كان في مهاجمة قوافل قريش التي تتجه إلى الشام.
فهذه القوافل لا تحميها إلا قوة عسكرية بسيطة، وتقدر القوة الإسلامية أن تهاجمها، كما أن هذه القوافل تمر قريباً من المدينة، فلن يكون هناك جهد كبير على المسلمين، وفي نفس الوقت سيرجعون إلى المدينة بسرعة قبل أن تحصل مشاكل من اليهود أو المشركين.
ثم أنهم سيستعيدون جزءاً من أملاكهم المسلوبة، ويوقعون الرهبة في قلوب أعدائهم، فكانت هذه فكرة فيها أكثر من فائدة، وبذلك يرفع المسلمون الظلم عن كاهلهم بمهاجمة قوافل قريش.
وطبعاً هم في حالة حرب حقيقية، وليس هناك أي مجال لما يطعن به المستشرقون والعلمانيون بأن المسلمين يغيرون على الآمن من قريش، هذه حرب معلنة بين دولة المدينة المسلمة وبين دولة مكة الكافرة، وكل طرف من الطرفين يستحل دم الآخر وماله، وكل طرف من الطرفين يضرب مصالح الآخر، وهذا عرف في حالة الحرب متعارف عليه في كل الأزمان والأماكن، والإسلام دين واقعي يرد القوة بالقوة، ويشهر السيف في وجه من أشهر السيف عليه: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:41 - 42].
ثم بعد ذلك يلومون المسلمين أنهم يهاجمون قافلة من قوافل قريش التي سلبت كل أموال المسلمين، ولا يلومون من سلب أموال شعب بكامله، وهذا يحصل كثيراً ونراه في التاريخ.
كذلك يستاءون لو أن المسلمين قتلوا من قتلهم قبل ذلك وعذبهم وشردهم، ولا يستاءون ممن أباد الشعوب بالبارود والنابالم واليورانيوم والقنابل العنقودية وغير ذلك.
موازين مختلفة ومكاييل متباينة؛ لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله عز وجل.
 تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على الفهم الصحيح للهدف من وراء القتال
إذاً: أخذ المسلمون قراراً بمهاجمة قوافل قريش المتجهة إلى الشام، لكن قبل التخطيط العسكري لمهاجمة قوة قريش لا بد من تربية خاصة لنفوس المسلمين.
الآن هناك تشريع جديد، قانون يسمح بالقتال، فلابد أن نعرف لماذا سنقاتل؟ وماذا لو قتلت في المعركة؟ وماذا لو انتصرت؟ إن هذه الأمور لم يعرفها المسلمون قبل ذلك؛ لأن التشريع جديد والظروف جديدة، لكننا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ يعلم المسلمين ليس فقط كيف يقاتلون، ولكن في سبيل من يقاتلون.
فالقتال في الإسلام ليس إلا في سبيل الله عز وجل، ليس في سبيل النفس، ولا القائد ولا في سبيل الدنيا بأسرها، إنما هو في سبيل الله؛ لذلك فإنك تجد دائماً كلمة الجهاد في القرآن أو في السنة تأتي دائماً مقرونة بكلمة: (في سبيل الله) قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111].
إلى آخر الآيات.
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول عليه السلام قال: (والذي نفسي بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل).
وتجد هذا متكرراً في القرآن والسنة، وهو مخالف تماماً لأغراض الحرب عند غير المسلمين, أو عند الجيوش العلمانية من المسلمين، منهم من يقاتل رغبة في سبيل المال أو السلطة أو التملك، ومنهم من يقاتل رهباً وخوفاً من القائد أو العقاب، فليست هناك قضية حقيقية يقاتل من أجلها، ومن ثم يقاتل بلا حماسة ولا روح ولا هدف؛ لذلك فليس عنده أي مانع من أن يهرب من الجيش إن أمكن الهروب، أو يهرب من أرض القتال نفسها؛ لأنه ضاعت النوايا والأهداف، أما القتال في الإسلام فمختلف، هو قتال في سبيل الله، والله عز وجل حي لا يموت؛ لذلك فإن روح الجهاد عالية بصورة مستمرة وتلقائية في كل فرد.
إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام قام بالإعداد التربوي والنفسي على أعلى مستوى، وأصبح الصف الإسلامي فعلاً جاهز للصدام المروع مع قريش، لكن مع ذلك لم يخرج الرسول عليه السلام إلى القتال خروجاً عشوائياً دون تخطيط، بل جهز مسرح العمليات بقدر ما يستطيع، كما قلنا قبل ذلك أنه عقد بعض المعاهدات مع القبائل التي تقع في غرب المدينة المنورة، وهذه القبائل تسيطر على المنطقة التي تمر منها قوافل قريش، فالرسول عليه السلام عقد معاهدات جوار ودفاع مشترك، وبهذه المعاهدات سيحيد على الأقل جانب هذه القبائل، وسيطمئن إلى أنه لن يضرب من ظهره في أثناء الحرب مع قريش، وسيقوم كما سنرى بعقد معاهدات أخرى كلما استطاع مع بعض القبائل الأخرى في المنطقة وحولها.
أسباب تكوين الدوريات الإسلامية من المهاجرين فقط
بدأت الدوريات العسكرية الإسلامية بالفعل تجوب المنطقة حول المدينة المنورة بحثاً عن قوافل قريش المتجهة إلى الشام.
ونلاحظ شيئاً مهماً في هذه الدوريات، فهي مكونة فقط من المهاجرين وليس فيها أنصاري واحد، وذلك لعدة أسباب: أولاً: المهاجرون هم الذين وقع عليهم الظلم من قريش، فحربهم مع قريش ستبقى حرباً مفهومة عند كل أهل الجزيرة العربية، فيعذر أهل الجزيرة العربية المسلمين تماماً في هذه الحرب، وبذلك لا تفهم صورة الإسلام بطريقة خاطئة وبالذات في أيام الإسلام الأولى التي لم يسمع الناس فيها عن الإسلام.
ثانياً: المهاجرون سيكونون أكثر حمية وأشد قوة في حربهم مع قريش؛ لكونهم يستردون حقاً شخصياً لهم سلبته قريش؛ لذا ستكون فرصة النصر في جيش المهاجرين أكبر من فرصة النصر في الجيش المختلط من المهاجرين والأنصار.
ثالثاً: المهاجرون يعرفون أهل قريش، ويعرفون طرق حربهم وطرق قتالهم، فقد عاشوا بين أظهرهم فترة طويلة من الزمان، فهم يعرفون القادة، ويعرفون إمكانياتهم العسكرية بكل التفاصيل، وهذا الأمر سيعطي فرصة أكبر للنصر.
رابعاً: رفع الروح المعنوية للمهاجرين، فالمهاجرون تركوا الديار والأموال، وهذه فرصة لرفع الروح المعنوية، وتعويض ما خسروه مادياً ومعنوياً.
وقد يكون هناك أسباب أخرى لاختيار المهاجرين قد لا نعلمها، لكن السبب الرئيس في هذا الأمر: هو أن الرسول عليه السلام لم يرد أن يحرج الأنصار بالخروج للقتال ضد قريش خارج المدينة؛ لأن الأنصار لما بايعوا بيعة العقبة الثانية بايعوا على أن ينصروا الرسول صلى الله عليه وسلم في داخل المدينة المنورة إن أتى إليهم، ولم يبايعوه على الحرب خارج المدينة.
والرسول صلى الله عليه وسلم لو أمر الأنصار لأطاعوه، لكنه لا يريد أن يسبب لهم الإحراج، وكان صلى الله عليه وسلم وفياً في كل عهوده، لا يأخذ الناس أبداً بسيف الحياء.
سرايا وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم
كما أننا وقفنا وقفة مع نوعية المقاتلين لا بد أن نقف وقفة أخرى مع أولئك الذين استخلفهم صلى الله عليه وسلم على المدينة المنورة عندما خرج بنفسه للقتال.
هناك ثمان غزوات وسرايا تمت قبل غزوة بدر، من رمضان في السنة الأولى هجرية إلى رمضان في السنة الثانية هجرية، سنة كاملة تمت فيها ثمان غزوات وسرايا.
الغزوة: هي التي كان يخرج فيها صلى الله عليه وسلم بنفسه، وحينها كان يستخلف أحد أصحابه على المدينة المنورة.
أما السرية فهي التي يرسل فيها بعض الجنود بقائد من الصحابة، ولا يخرج فيها صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لرسول صلى الله عليه وسلم أربع سرايا وأربع غزوات، فالأربع الغزوات التي خرج فيها استخلف على المدينة أناساً من أصحابه، استخلف مرة سعد بن عبادة، ومرة سعد بن معاذ، ومرة زيد بن حارثة، ومرة أبا سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهم أجمعين.
أما تنوع الرجال فأمر مفهوم، فقد كان يربي قيادات تستطيع تحمل المسئولية، ويدربهم على القيادة تدريباً حقيقياً واقعياً.
كما أن قيادة سعد بن عبادة وسعد بن معاذ للمدينة المنورة في غياب الرسول عليه السلام أمر مفهوم أيضاً؛ وذلك لأن سعد بن عبادة سيد الخزرج، وسعد بن معاذ سيد الأوس، لكن اللافت للنظر حقاً هو ولاية زيد بن حارثة رضي الله عنه في سرية، وأبي سلمة بن عبد الأسد في سرية أخرى، وهذان الاثنان من المهاجرين وليسا من الأنصار، وولايتهم على المدينة المنورة مستغربة جداً، وإن كانت تدل على شيء فإنها تدل على أمور في غاية الرقي، منها: طاعة الأنصار الكاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
منها: أن المدينة أصبحت كياناً واحدًا، لا فرق فيها بين مهاجر وأنصاري.
منها: زهد الأنصار في الدنيا، وعدم رغبتهم أبداً في الرئاسة أو الملك.
فإذا أضفت إلى كل ذلك أن زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه كان مولى يباع ويشترى علمت مدى الانقلاب الهائل الذي أحدثه الإسلام في نفوس العرب كافة، حتى قبل أشراف الأنصار وأشراف المهاجرين بولاية زيد بن حارثة عليهم، ما دام يحكمهم بالإسلام وبأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والجميل في ذلك أن هذا التغير الهائل في طبيعة العرب لم يتطلب أعواماً ولا قروناً، بل عدة شهور فقط! زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه تولى قيادة المدينة لما خرج الرسول عليه والسلام في غزوة سفوان، وكان غزوة سفوان في ربيع الأول من السنة الثانية هجرية، أي: بعد حوالي اثني عشر شهراً من قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة.
فانظر إلى تربية الإسلام كم هي جميلة، وانظر إلى التغير الهائل الذي يحدثه الإسلام في قلوب الناس، وهذا لا يكون إلا لمنهج رب العالمين سبحانه وتعالى.
أما بالنسبة للسرايا والغزوات التي حصلت فكانت بالترتيب الآتي: كانت ثمان غزوات وسرايا مثل ما قلنا.
فالسرية الأولى سرية سيف البحر، سيف البحر، يعني: ساحل البحر بكسر السين وليس بفتحه، كانت في رمضان سنة واحد هجرية.
السرية الثانية: سرية رابغ في شوال سنة واحد هجرية، بقيادة عبيدة بن الحارث بن المطلب رضي الله عنه.
السرية الثالثة: سرية الخرار في ذي القعدة سنة واحد هجرية، بقيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
ثم بعد ذلك غزوة الأبواء وتسمى ودان في صفر من السنة الثانية هجرية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تحدث في ذي الحجة ومحرم غزوات وسرايا؛ لأنها أشهر حرم ليس فيها قتال.
بعد ذلك: غزوة بواط، في ربيع أول سنة اثنين هجرية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
بعد ذلك: غزوة سفوان في ربيع أول أيضاً سنة اثنين هجرية بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
السابعة: غزوة ذي العشيرة في جمادى الأولى سنة اثنين هجرية، بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الثامنة: سرية نخلة في رجب سنة اثنين هجرية بقيادة عبد الله بن جحش رضي الله عنه وأرضاه.
الفوائد المستنبطة من السرايا والغزوات
بنظرة عامة على هذه السرايا والغزوات نجد أنه لم يحدث قتال في المعارك السبعة الأولى تقريباً، ومع ذلك لم تخل هذه المعارك من فوائد كثيرة جداً.
أولاً: هذه المعارك كسرت الحاجز النفسي الكبير الذي كان عند المسلمين.
فالمسلمون كان عندهم حاجز نفسي، فقد مكثوا أربع عشرة سنة بالتمام والكمال لا يقاتلون.
والمسلمون أمروا بعدم حمل السيف في وجه من يظلمهم طيلة هذه المدة، وترك الدفاع عن النفس كل هذه الفترة قد يورث ضعفاً في النفس أو شعوراً بقلة الحيلة، وقد يؤدي إلى ما يسمى بإلف الذل أو الهوان، فجاءت هذه السرايا أو الغزوات البسيطة نسبياً كوسيلة متدرجة للصعود بنفسيات الصحابة من حالة الاستكانة إلى حالة الاستنفار والنهوض، ومن حالة الصبر على عدم الدفاع إلى حالة الصبر على تبعات الهجوم، فقد نقلت هذه السرايا والغزوات جيل المهاجرين من كونهم مجرد جماعة مضطهدة مشردة، إلى كونهم دولة ممكنة، لها جيش ينفذ مخططات ويحافظ على الأمن ويرهب الأعداء ويحفظ الكرامة وهكذا، فكانت فعلاً نقلة نفسية في منتهى الروعة.
ثانياً: هذه الغزوات والسرايا دربت الصحابة على فنون القتال، ودربتهم على ركوب الخيل والحرب على الإبل والمناورة والخطة والتحرك والترقب، ففرسان العرب بصفة عامة كانوا يركبون الخيل والإبل ويحاربون بالسيف والدرع، لكن ليس من الممكن أن ندخل حرباً ضخمة بدون تدريب، خاصة أن المسألة ليست مجرد مسابقة أو استعراض، بل مسألة حياة أو موت، مسألة بقاء أمة أو فناء أمة.
ثالثاً: هذه الدوريات العسكرية عرّفت المسلمين الدروب والطرق حول المدينة المنورة، فالمهاجرون ليسوا من أهل المدينة المنورة، ولا يعرفون الطرق والمسالك حول المدينة المنورة.
رابعاً: هذه الدوريات أشعرت القبائل المحيطة بقوة المسلمين، وكشفت جرأة المسلمين في مواجهة قريش، مع أن قريشاً هي أكبر القبائل العربية وأقواها، فلا شك أن هذه الدوريات أدخلت الرهبة في قلوب هذه القبائل وبالذات الأعراب، وبدءوا يحسبون للمسلمين ألف حساب.
خامساً: نتيحة هذه القوة التي ظهرت للمسلمين استطاع المسلمون أن يقوموا بعقد بعض المعاهدات مع بعض قبائل المنطقة غير قبيلة جهينة، كقبيلة بني ضمرة وغيرها من القبائل، من أجل ذلك رسخ المسلمون أقدامهم في المنطقة.
سادساً: أن هذه الدوريات العسكرية أرسلت رسالة واضحة إلى قريش، هذا إعلان رسمي للحرب من قبل الدولة الإسلامية، مع أن قريشاً أعلنت الحرب من قبل، لكن هذا أول إعلان رسمي من الدولة الإسلامية للحرب على قريش.
فالعلاقة لن تستمر بين المسلمين وقريش كما كانت من قبل، لن تستمر كعلاقة ظالم بمظلوم، أو كعلاقة مستبد بمقهور لا، ستصبح من الآن علاقة دولة بدولة أخرى تكافئها وتناظرها.
ومن المؤكد أن هذا سيؤثر سلباً على نفسية أهل مكة، فإنهم يرون قوة المسلمين تتنامى والأعداد تتزايد، وجرأة المسلمين تصل إلى حد مهاجمة قريش لا مجرد الدفاع عن النفس.
فهذه الفائدة كانت من أعظم فوائد هذه الدوريات الإسلامية.

وقفات مع سرية نخلة
إذا كان هذا التحليل ينطبق على السبع المعارك الأولى، فالمعركة الأخيرة التي كانت سرية نخلة، تحتاج إلى وقفة خاصة.
هذه السرية خرجت من المدينة المنورة في شهر رجب سنة اثنين هجرية؛ لاعتراض قافلة لقريش ستمر بمنطقة نخلة، ونخلة منطقة تقع بين مكة والطائف، ولهذه السرية مشكلتان كبيرتان، المشكلة الأولى في المكان والمشكلة الثانية في الزمان.
أما مشكلة المكان: فهي أن منطقة نخلة تقع على بعد حوالي أربعمائة وثمانين كيلو متراً من المدينة المنورة، فهي مسافة طويلة جداً خاصة أن السرية عدد الخارجين فيها اثنا عشر مقاتلاً فقط، أمرها خطير جداً جداً، وفي نفس الوقت نخلة قريبة جداً من مكة، فلو علم المشركون بأمر هذه السرية، فإن قتال هذه السرية سيكون أمراً ميسوراً على جيش مكة.
من أجل هذا كان من المتوقع أن المسلمين يترددون في أمر الخروج في هذه السرية؛ لذلك اختار الرسول عليه السلام طريقة فريدة جداً لإخراج هذه السرية، لم يكرر هذه الطريقة مع سرايا أخرى.
هذه الطريقة: أنه كتب تكليف هذه السرية في كتاب مغلق، وأعطاه لقائد السرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه، وأمره أن يسير بهذا الكتاب المغلق مدة يومين، وبعد يومين يفتح الكتاب ويقرؤه، وبعد أن فتح عبد الله بن جحش الكتاب وجد فيه: (إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم) وأمره صلى الله عليه وسلم ألا يكره من معه على الخروج إلى هناك، أي: كل واحد يخرج بإرادته الكاملة، وهنا قام عبد الله بن جحش رضي الله عنه وقال لأصحابه: من أحب الشهادة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع، وأما أنا فناهض، فنهضوا جميعاً معه واتجهوا إلى منطقة نخلة.
والذي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل هذا التوجيه الفريد لهذه السرية هو صعوبة المهمة وبعد المسافة، فلو أنه أمر الصحابة أمراً مباشراً في المدينة بالخروج إلى هذه المسافة البعيدة قد يتردد البعض في التكليف، لكن إذا أتاهم التكليف بعد قطع مسيرة يومين -خمس الطريق تقريباً- فإنهم سيكونون على الاتجاه ولن يترددوا إن شاء الله، ومع ذلك لم يرد صلى الله عليه وسلم أن يفرض عليهم هذا الأمر الشاق فرضاً، بل ترك لهم حرية الاختيار، وهو يعرف درجة إيمانهم، وثيق ثقة كاملة في أنهم سيكملون المهمة ويصلون إلى نخلة، وهذا الذي حصل بالفعل.
هذه كانت مشكلة المكان.
أما مشكلة الزمان فكانت أصعب، فهذا الخروج كان في شهر رجب، ورجب كما تعرفون من الأشهر الحرم، والعرب بكاملهم سواء كانوا من المسلمين أو من الكافرين يحرمون القتال في الأشهر الحرم.
وكثير من الفقهاء يقولون: إن هذا الحكم نسخ، لكن في ذلك الوقت هذا الحكم لم يكن منسوخاً، فالقتال في الشهر الحرام حرام على المسلمين وعلى الكافرين، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة بالقتال لا تصريحاً ولا تلميحاً.
قال لهم: (فترصد بها عير قريش، وتعلم لنا من أخبارهم) فقط.
وصل الصحابة بالفعل إلى منطقة نخلة، ووجدوا القافلة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم، لكنهم وصلوا في آخر ليلة من ليالي الشهر الحرام رجب، والقافلة متجهة إلى مكة، وبعد ليلة واحدة ستكون داخل مكة، فلو تركوا القافلة حتى تنتهي ليالي شهر رجب ستدخل القافلة حرم مكة، والقتال في مكة حرام كذلك، وستفلت القافلة، وهذه القافلة كانت فرصة كبيرة للمسلمين.
أولا: ستكون أول ضربة لقريش؛ لأن كل الغزوات والسرايا لم تسفر حقيقة عن أي غنائم أو انتصارات.
ثانياً: هذه الضربة في عمق الجزيرة العربية بعيداً جداً عن عقر دار المسلمين، وقريباً جداً من عقر دار الكافرين، فهي تحمل جرأة لا تخفى على أحد، ومن المؤكد أنه يكون لها أثر سلبي ضخم على المشركين.
ثالثاً: لم يكن في القافلة إلا أربعة رجال فقط، فالحراسة ضعيفة، والمسلمون كانوا عشرة، كان عددهم قبل ذلك اثني عشر رجلاً، لكن اثنين منهم سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما ضل لهما بعير قبل وصولهم إلى نخلة، فذهبا للبحث عنه فوجد الصحابة القافلة تمر، والصحابة في هذا الوقت عشرة، والقافلة فيها أربعة، إذاً: فرصة القتال ممكنة.
ثالثاً: المسلمون في هذه السرية من المهاجرين، وقد أوذوا إيذاءً مباشراً من قريش، فقائد هذه السرية عبد الله بن جحش كان أبو سفيان بن حرب قد استولى على داره وباعها وأكل ثمنها، فالمهاجرون يشعرون من داخلهم بأذى شديد تلقوه من قريش، فهذه فرصة أن القافلة أمامهم.
لكن في نفس الوقت كانت هذه السرية في آخر ليلة في الشهر الحرام رجب، والقتال فيه ممنوع فهل يتقيد الصحابة بالقوانين التي انتهكها عدوهم آلاف المرات، ويضيعون فرصة السيطرة على القافلة، أم يرمون بالقانون عرض الحائط ويهجمون على القافلة؟ هل يرفع الصحابة الظلم الذي وقع عليهم منذ سنين، وقد جاءت فرصة قد لا تتكرر بسهولة، أم يتركون هذه الفرصة الثمينة؟ هل يراعي المسلمون الآن اموقف قريش من انتصار المسلمين في سرية نخلة
أغلقت هذه الصفحة مؤقتاً لصالح المسلمين، لكن هذا الموقف كشف عن بعض الأحداث الخطيرة التي من الممكن أن تشهدها الجزيرة العربية مستقبلاً.
كشفت عن مناطق خطرة جداً سيحصل فيها أحداث قريبة بين مكة والمدينة.
مكة فيها كفار قريش، والمدينة فيها اليهود، ماذا حصل بعد هذه السرية؟ ما هو الذي غير الأوضاع بعد هذه السرية العظيمة؟ فبعد هذا الاختراق المرعب لصفوف قريش، وبعد هذا التحدي السافر من القوة الإسلامية الجديدة، لا شك أن قريشاً ستعيد الحسابات تماماً، وسترتب الأوراق من جديد.
فالمسلمون وصلوا إلى مكان لا يتوقع المشركون أبداً أن يصلوا إليه، سيطروا في جرأة عجيبة على قافلة من قوافل قريش على بعد أربعمائة وثمانين كيلو متراً من المدينة المنورة وقريبة جداً من مكة.
ولا يستبعد منهم أبداً تكرار هذا الأمر في أي مكان في الجزيرة، بل قد يتم غزو مكة ذاتها، فلا شك أن هذا سيدفع أهل مكة إلى أخذ تدابير وقائية وقد يفكرون في غزو المدينة المنورة، وهم فعلاً غزوا المدينة قبل ذلك في محاولة كرز بن جابر الفهري، ولعل المحاولة القادمة تكون أكبر، فقد يفكر المشركون في اصطياد القوافل الإسلامية، وقد يفكرون في الهجوم على القبائل الإسلامية حول المدينة، فهذه احتمالات أصبحت واردة بعد سرية نخلة.
قد يحدث صدام قريب مروع بين قوة المشركين المتمثلة في قريش وحلفائها، وقوة المسلمين الناشئة في المدينة المنورة.
هذا الخطر يتوقع قدومه من مكة.
أما الخطر الأقرب فكان متوقعاً من اليهود، فاليهود إلى الآن لم يظهروا أي تعاطف مع الدين الجديد، اللهم بعض الأفراد المعدودين على أصابع اليد الواحدة.
حاول اليهود الدس والكيد لهذا الدين أكثر من مرة، وازداد كيدهم بعد سرية نخلة، وبدءوا يجاهرون بموالاتهم لقريش الكافرة، مع أن المعاهدة التي بينهم وبين الرسول عليه والسلام كانت تقول: (لا تجار قريش)، لكنهم بدءوا يظهرون الولاء لقريش، بل أظهروا الرغبة الجامحة في أن تأتي قريش وتغزو المدينة المنورة وأبرزوا حتى التفاؤل بالأسماء، واليهود يحبون الرموز، على سبيل المثال: قتل عمرو بن الحضرمي، عمرو عمرت الحرب، الحضرمي حضرت الحرب، والذي قتل عمرو بن الحضرمي من المسلمين كان اسمه واقد بن عبد الله، قالوا: واقد أوقدت الحرب.
هذه طبيعة اليهود.
إذاً: بعد هذه السرية تبين أن هناك صداماً متوقعاً قريباً مع قريش، وأيضاً هناك صدام قريب متوقع مع اليهود، هذا كله في شهر شهر شعبان سنة اثنين هجرية.مرحلة فرض القتال على المسلمين إذا قوتلوا
إلى هذه اللحظة كان القتال مأذوناً به وليس مفروضاً على المسلمين بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أذن للمسلمين أن يقاتلوا إن وجدوا في أنفسهم قدرة على القتال، أو أن يختاروا عدم القتال إن رأوا أن ذلك أفضل.
والآية التي أقرت هذا التشريع: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39].
لكن الوضع في هذا الوقت تغير، فالإذن جاء في زمان القتال فيه محتمل، أما الآن فالقتال ليس محتملاً فقط، بل متوقعاً وقريباً جداً يكاد يكون حتمياً.
فلو حدث قتال بالصورة التي نتخيلها من جانب قريش المهزومة في كرامتها، المجروحة في كبريائها، وبمساعدة اليهود الغادرين في داخل المدينة المنورة، كيف سيكون الموقف؟ سيكون الموقف في غاية التأزم، فلا ينفع هنا مجرد الإذن بالقتال، بل يجب أن يفرض القتال على المسلمين لدفع شر هؤلاء الأعداء؛ لأن الإذن سيسمح للبعض بعدم المشاركة، وسيفتح للشيطان أبواباً كثيرة يدخل منها إلى قلوب الضعفاء فيصور لهم صعوبة القتال، وستقاتل قريش مجتمعة مع اليهود، وستقاتل مجتمعة مع قبائل العرب، وهذا أمر صعب، فلا يمكن للمسلم في مثل هذه الظروف أن يؤاثر الدعة ويتجنب القتال.
لكن إن فرض القتال على المسلمين فرضاً فإنهم سيعتبرونه كالصلاة والزكاة، ويعتبرونه واجباً ينفذ، وبذلك تغلق أبواب الشيطان، وستقل حتماً نسبة التخلف عن الجهاد في سبيل الله، ولن يكون التخلف إلا من الضعفاء أو المنافقين، وهؤلاء لا نريدهم في المعركة.
نتيجة لهذه الظروف ينزل الله التشريع المحكم بالقانون الجديد المناسب للمرحلة الحالية.
المعاني المستنبطة من آيات القتال
فرض سبحانه القتال على المسلمين إذا قوتلوا، وليس للمسلمين اختيار في قضية دفع المشركين إذا هجموا عليهم، بل لا بد من الدفاع حتى الموت، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ} [البقرة:216].
فلم يعد القتال مأذوناً به فقط، بل صار مكتوباً -أي: مفروضاً- على المسلمين، ونزل أيضاً قول الله عز وجل الذي يوضح سبب القتال في هذه المرحلة، وبعض الأحكام الخاصة بالقتال.
قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:190 - 193] سبحانه الله.
نريد أن نقف وقفات طويلة مع هذه الآيات، ونريد أن نتصور حال المسلمين وحال غير المسلمين عند نزول هذه الآيات.
كراهية الناس عامة للقتال
حملت هذه الآيات تشريعاً جديداً يحتاج إلى نفوس إسلامية خاصة للعمل بهذه الآيات، ويحمل في نفس الوقت رسالات في منتهى الوضوح إلى المشركين في مكة، وإلى المشركين في خارج مكة، وإلى اليهود كذلك.
تعالوا نعيش مع أهل هذه المرحلة، ونراقب رد فعلهم لهذه الآيات: أولاً: الناس بصفة عامة تكره الحروب والقتال، ولا يختلف اثنان في أن الحروب تأتي بالدمار والخراب وإزهاق الأرواح، ونحو ذلك من أشياء تورث الحزن والكراهية؛ من أجل هذا ربنا يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216].
لكن ليس معنى هذا: أن القتال إذا تعين على المسلمين لهم أن يتركوه لأنه مكروه، بل بعض المسلمين يصلون إلى درجة من الرقي في الإيمان في حبهم للموت مع أنه مكروه، يتمنون هذا المكروه من أجل إرضاء الله سبحانه وتعالى.
ولقد مر بنا قول الرسول عليه السلام: (لوددت أن أغزو في سبيل الله) وفي رواية: (لوددت أن أقتل في سبيل الله).
وسيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه يقول: جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.
الموت مع أنه مكروه بصفة عامة، إلا أنه أصبح محبوباً إلى خالد رضي الله عنه وإلى جيشه، وما ذلك إلا لأنه في سبيل الله، فليس معنى القتال مكروه: أننا نقعد عنه، بل على العكس، كلما ارتقى المسلم في سلم الإيمان أحب هذا المكروه ما دام في سبيل الله.
القتال مكروه في ظاهره وخير في باطنه
المعنى الثاني: معنى دقيق جداً ومهم، وهو أن الذي تراه بعينك مكروهاً يجعل الله عز وجل في باطنه الخير: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216].
وأحياناً ترى شيئاً محبوباً وتظن أنه خير، ويكون في باطنه الشر: {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216].
هذا الكلام قد يكون غريباً عند عموم الناس ويحتاج إلى يقين كبير وإيمان كامل باختيار رب العالمين سبحانه وتعالى، ومع ذلك لو تدبرت في الأحداث فإنك ستقترب غالباً من رؤية الخير في باطن ما يراه الناس شراً.
على سبيل المثال: القتال مكروه، فيه إيذاء وقتل وتدمير وخراب، لكن انظر إلى الأمة التي تقاتل، والأمة التي لا تقاتل.
الأمة التي تجاهد وتقاتل ترفع رأسها وتعز نفسها، وينظر لها الآخرون نظرة احترام وتوقير.
والأمة التي تزهد في القتال وتعرض عن الجهاد يسلط الله عز وجل عليها الذل، حتى لا تجد لها مكاناً بين الأمم المرموقة في العالم.
الأمة التي تجاهد تحافظ على حقوقها، وتسترد المسلوب منها، والأمة التي تعرض عن القتال والجهاد تنتهك حرماتها وتضيع حقوقها، ولا يخفى ما وراء ذلك من أمور مكروه معروفة.
إذاً: تدبروا الأمر يا إخواني! فإن القتال وإن كان في ظاهره كره، إلا أن في باطنه عزة كبيرة للأمة المسلمة ما دام هذا القتال في سبيل الله.
ظهور الطائفة التي رأت الكره في القتال ولم تر الخير في باطنه
النقطة الثالثة: عموم المؤمنين قبلوا الأمر دون جدال، وقبلوا القتال في سبيل الله سواء كان مأذوناً به أو مفروضاً عليهم، لكن هناك طائفة من المؤمنين عندما نزل هذا الفرض للقتال رأت الكره ولم تر الخير في باطنه، وأتاها التكليف في لحظة من لحظات ضعف الإيمان، ولم يكن إيمانها بالقوة التي تدفع إلى العمل وإن كان مع الكراهية، وهذه الطائفة ليست منافقة بل مؤمنة، لكنها فترة ضعف وفترة فتور فماذا حصل؟ انطلق هؤلاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له: لو تأذن لنا في تأجيل القتال، قالوا ذلك لأنهم خائفون من المشركين واليهود، خائفون من اتحاد هذه القوى على المسلمين، والمسلمون قلة.
ونحن قد نسمع هذا الكلام ونستغرب: كيف يكون هذا الكلام في الصحابة وهم خير الناس وأفضل القرون؟ لكن الحمد لله أن هذا حدث في العهد النبوي؛ لنعرف كيف يتم التعامل مع مثل هذه المواقف؟! ما هي وسائل علاج حالات الضعف الإيماني التي تطرأ على نفس المؤمنين أحياناً؟ الغريب جداً أن هذه الطائفة التي ترددت في أمر القتال لخوفها عندما فرض عليها القتال، كانت هي نفس الطائفة التي كانت تطلب القتال في وقت منعه في أيام مكة.
كان القتال في مكة ممنوعاً؛ لأن قوة المسلمين لم تكن تسمح لهم بذلك، وفصلنا في هذا الأمر في دروس العهد المكي، هذه الطائفة كانت تريد الإسراع برفع الظلم عن الكاهل ولو بالقتال الصعب، أي: لم تكن خائفة! لكنها كانت تعاني من قلة الصبر، والمرحلة كانت تتطلب صبراً من نوع خاص، ألا وهو الصبر على عدم القتال.
أما المرحلة الجديدة، فإنها تحتاج إلى صبر من نوع ثان، وهو الصبر على القتال، سبحان الله! فهؤلاء يعانون من عدم الصبر في مرحلة مكة على عدم القتال، وعدم الصبر في مرحلة المدينة على القتال، لكن هذه الطائفة لم تكن منافقة أبداً، إنما كانت مؤمنة، لكن الإنسان قد يعتريه أحياناً بعض الضعف والقصور في فترة من فترات الحياة، أو ظرف من ظروف الحياة.
وليس هنالك خطر في أن يكون هناك بعض المسلمين على هذه الصورة ما دمنا نقر لهم بالإيمان، لكن الخطر الحقيقي أن تكون الطائفة هذه هي الطائفة الأعم والأشمل في الأمة الإسلامية، أو أن نفشل في علاج هذه الطائفة، فهذا الذي لا نريد أن نقع فيه.
في هذه الطائفة نزل قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77] في فترة مكة {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} [النساء:77] هذه فترة المدينة {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء:77].
فهذه الخشية التي تسللت إلى قلوبهم ليست لضعف يقينهم في أن الله عز وجل قادر على نصرتهم، لكن لأن الدنيا تسللت إلى قلوبهم، ومن ثم حرصوا على الحفاظ عليها، وخافوا من فقدانها.
وفي هذه اللحظة من لحظات ضعف الإيمان وغياب الرؤية الصحيحة، نسوا أنهم لن يؤخروا أبداً عن لحظة موتهم، سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، نسوا أن نعيم الآخرة لا يقارن أبداً بنعيم الدنيا القليل، ومن ثم لا يجوز أبداً للمؤمن الفاهم الواعي أن يضحي بالآخرة في سبيل تحصيل الدنيا، ولو حاز الدنيا بكاملها.
من أجل هذا تعالوا نر العلاج الرباني وهو يركز على معنى أن الموت محدد في ميعاد لن يقدم ولن يؤخر، معنى أن الدنيا لا تساوي شيئاً، وأن الآخرة هي كل شيء، قال الله عز وجل تعقيباً على هذه الآيات: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء:77]، يعلم الرسول عليه السلام كيف يعالج هؤلاء، ويعلمنا بقوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:77 - 78].
ففي داخل المدينة أو في خارج المدينة سواء كنا في قتال أو في غير قتال سيأتي الموت في اللحظة المحددة.
فلما ذكرت هذه الطائفة عادت إلى الله عز وجل ولم يتخلف منها أحد، وهذا دليل على أن الطائفة كانت مؤمنة، لكن حصل هذا الأمر لنعرف كيف يكون علاجه.
هذه كانت النقطة الثالثة.
تحديد قتال الطائفة التي تبدأ المسلمين بقتال
النقطة الرابعة: قال الله عز وجل في هذه الآيات: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190].
هنا يحدد ربنا سبحانه وتعالى الطائفة التي يجب أن نقاتلها، وهي الطائفة التي تبدأ المسلمين بقتال، ففي هذه المرحلة لم يكن هناك ما هو معروف في الإسلام بجهاد الطلب، والجهاد لنشر كلمة رب العالمين في الأرض، كما هي في الفتوح الإسلامية التي تأتي بعد ذلك، إنما المرحلة مرحلة دفاع عن النفس وعن الإسلام.
ولا بد أن يدرك المؤمنون مدى قوتهم، فلا يطمعون فيما هو أكبر من حجمهم الحقيقي، وهذا الذي نسميه فقه المواقع.
قتال المسلمين للأعداء مقيد بعدم الاعتداء
النقطة الخامسة: إن شهوة الانتقام عند المظلوم قد تتفاقم وتخرج عن الإطار المسموح به في الشرع، ونحن لا يجوز لنا أبداً أن نرفع ظلماً وقع علينا بإيقاع ظلم على آخرين.
لذلك يأتي الضابط المهم جداً للقتال في الإسلام، وهو ضابط ثابت مستمر غير منسوخ، معمول به في كل حروب المسلمين إلى يوم القيامة: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190].
فالله عز وجل لا يحب المعتدي حتى ولو كان من المسلمين، والعدل قانون لا ينصلح حال الأرض إلا به، والعدل لابد أن يكون مع الجميع حتى مع الأعداء المكروهين إلى النفس، يقول تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2] أي: حتى مع الصد عن المسجد الحرام لا تعتدوا، وصور الاعتداء كثيرة، منها الغدر والخيانة وتعذيب الأسرى، ومنها التمثيل بالجثث، والقتال لحظ النفس وليس لله عز وجل، ومنها قتال من لا يجب أن يقاتل، ومنها التجاوز في التدمير والتخريب، ومنها إيقاع الظلم ضد أي إنسان كان، بل إن منها إيقاع الظلم بالحيوان أو بالنبات.
فانظروا إلى التعاليم النبوية التي تضع ضوابط القتال في الإسلام حتى نعرف قبل أن نحمل السيف ونحارب أعداءنا كيف نحارب بأخلاق الإسلام؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً صغيراً ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم وأصلحوا، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
فهذه نصائح تقال لجيش خرج يحارب، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن بريدة رضي الله عنه: (اعزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا - لا تغلوا من الغنيمة - ولا تغدروا، ولا تمثلوا - أي لا تمثلوا بجثة قتيل من الأعداء- ولا تقتلوا الوليد، ولا أصحاب الصوامع المعتكفون للعبادة).
هذه هي أخلاق الحروب في الإسلام، ليس فيها قتل لمدنيين أو غير محاربين، وليس فيها إبادة جماعية، ولا تدمير عشوائي، ليس في تاريخنا ما يشبه ما حدث في هيروشيما أو ناجازاكي أو فيتنام أو كوريا أو ألمانيا أو غيرها من البلدان، ليس في تاريخنا ما يشبه ذلك من قريب أو من بعيد.
إن الجميل جداً في قصة القتال في الإسلام أن هذه الضوابط كلها والتشريعات الأخلاقية العظيمة لم تأت نتيجة تطور معين في الحضارة الإسلامية على مدار السنين والقرون، إنما نزلت في أول تشريع للقتال، نزلت بهذا التكامل والسمو والعظمة، بما لا يدع أي مجال للشك أن هذا المنهج رباني وأن هذه التشريعات إلهية، وأنه لا مقارنة مطلقاً بين قوانين السماء المتكاملة والتامة وبين قوانين الأرض الوضعية التي يعتريها الكثير من النقص في كل بند من بنودها: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
هناك تشريعات أخرى كثيرة الوقت لا يتسع، لكن الذي أريد أن أقوله وأختم به: إن هذه الآيات لما نزلت كان وقعها شديداً جداً على قريش واليهود وعلى كل الجزيرة العربية، وقد ترقب الجميع أن تدور حرب هائلة بين المسلمين وبين الكافرين.
ترى ما هي مقدمات هذه الحرب؟ وكيف ستكون؟ وما هو رد فعل المسلمين والكافرين لهذه المعركة الهائلة؟ هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في الدروس القادمة.
وأسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهل بدر
فرض الله سبحانه الصيام والزكاة والقتال على المؤمنين في شهر واحد، كما أنه أمرهم أن يتجهوا إلى بيت الله الحرام في صلاتهم في هذا الشهر نفسه، وهو شهر شعبان، وكل هذه اختبارات لتمحيص المؤمنين وظهور صدقهم في طاعتهم له سبحانه، وكان فرض القتال استعداداً لمواجهة ستكون بين الحق والباطل في شهر رمضان في غزوة بدر التي حوت أسباب النصر التي كانت تحملها الفئة المؤمنة، وأسباب الهزيمة التي كان يحملها أهل الكفر والضلال.
ملخص مراحل فرض القتال على المسلمين
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.
مع الدرس السادس من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.
في الدرس السابق تحدثنا عن بعض السرايا والغزوات التي سبقت غزوة بدر، وفصلنا في سرية نخلة، والآثار العظيمة التي عمت الجزيرة العربية بكاملها بعد هذه السرية الكبرى.
هذه السرية كان من جرائها أن غنم المسلمون قافلة كاملة لقريش، وأسر رجلان من قريش وقتل واحد وفر الرابع، وأصبح للمسلمين شوكة واضحة في الجزيرة العربية، وتهديد ظاهر لمصالح قريش ليس حول المدينة المنورة فقط، ولكن في عمق الجزيرة العربية بالقرب من مكة المكرمة.
ذكرنا أن المسافة بين نخلة والمدينة المنورة كانت أكثر من 480 كيلو متراً، وهي مسافة ضخمة جداً جداً وبالذات في الصحراء، أنزل الله عز وجل بعد سرية نخلة بعض الآيات التي برأت ساحة أولئك الذين اشتركوا في هذه السرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه وأرضاه ومن معه من الصحابة، ثم أنزل بعد ذلك بعض الآيات التي تفرض القتال على المسلمين، وذكرنا أن القتال كان مأذوناً به قبل هذه السرية، ثم الآن فرض القتال على المسلمين، يعني: لا يجوز للمسلم إن قوتل إلا أن يقاتل.
قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190]، {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:191 - 193].
وذكرنا أن هذه الآيات كان لها وقع شديد على المشركين واليهود، بل وعلى بعض المسلمين، فهذه أول آيات تفرض القتال على المسلمين، وقتال المشركين أمر متوقع جداً بعد سرية نخلة.
وربنا سبحانه وتعالى قال في هذه الآيات: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191]، ففيها إعلان صريح يدل على قوة المسلمين وواقعيتهم، إعلان مجابهة القوة الكافرة المعتدية عليهم وهي قريش في كل مكان، هذا الإعلان يدل على أن كل المحاربين من قريش مستهدفون الآن، وأن قريشاً كانت تستهدف المسلمين قبل ذلك في كل مكان، وقد حان وقت المعاملة بالمثل، سيُستهدف المشركون من قريش في كل مكان سواء في المدينة أو في مكة أو في أي قافلة هنا أو هناك، كل هذا فهمناه من الجزئية القصيرة من القرآن المعجز: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة:191].
إذاً: إعلان صريح للحرب على قريش، وفي نفس الوقت هذه الآية حملت الإصرار على موقف المسلمين في سرية نخلة، نحن لا نعتذر بأي حجج واهية عما حدث في هذه السرية، بل نحن نقول: سيتكرر هذا كثيراً إلى أن تفيق قريش من غيها وتتوب من ظلمها.
في نفس المجموعة من الآيات قال الله عز وجل: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191] وهذا تصعيد خطير جداً وصريح، فالمشركون أخرجوا المسلمين المهاجرين من مكة، والآية تدعو المسلمين أن يخرجوا الكفار من مكة أيضاً، {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة:191]، جملة في منتهى الخطورة، فعلى كفار قريش أن يتوقعوا مباغتة المؤمنين لهم في مكة في أي لحظة، فعليهم أن يعيشوا في رعب الانتظار الآن، وعليهم أن يدركوا أن الأوضاع الجديدة شديدة الاختلاف عن الأوضاع السابقة، عليهم أن يدركوا أن هؤلاء الذين عذبوا لسنوات وسنوات في البلد الحرام مكة، قويت شوكتهم الآن واشتد عودهم، وبلغ تهديدهم للدرجة التي يصرحون فيها بغزو عقر دار المشركين مكة.
في الناحية الأخرى على المسلمين أيضاً أن يكونوا على قدر المسئولية الجديدة، عليهم أن يعلموا أبعاد الخطة الجديدة، عليهم أن يعلموا متطلبات المرحلة الجديدة، فلم يعد هدف المسلمين فقط هو الحفاظ على دينهم وحياتهم، بل ارتفع الهدف إلى الرغبة الصادقة في رفع الظلم تماماً عن كواهلهم، إلى الرغبة الصادقة في نشر هذا الدين في كل مكان، ولو كان هذا المكان هو مكة معقل قريش.
فتحت هذه الآية آفاق جديدة تماماً للمسلمين، سمت بأحلامه
الاختبارات التي مر بها مؤمنو المدينة قبل اصطدامهم بأهل الباطل
من سنة الله سبحانه وتعالى أنه قبل الصدامات الكبرى التي تقع بين الحق والباطل لابد أن تمر أمة المسلمين ببعض الشدائد والمصاعب والاختبارات التي تمثل امتحاناً صعباً لكل المسلمين.
فمن السهل أن تقول: أنا مؤمن، لكن الصادقين قليل.
قال الله عز وجل يصف إيمان الأعراب: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، فلا بد أن يكون هناك اختبار صعب يحدد فعلاً من الصادق ومن الكاذب ومن المؤمن ومن المنافق؟ من هذه الاختبارات التي تمت في شهر شعبان اختبار فرض القتال، فالذي يقبل بمشقة فرض القتال ويستمر في الطريق هو صادق الإيمان، وأما الذي سيجزع ويتثاقل إلى الأرض فصف المؤمنين في غنى عنه ولا يحتاجون إليه، بل من الأفضل أن يترك الصف من الآن قبل أن تشتد الأزمة.
إذاً: فرض القتال كان أحد الاختبارات قبل الصدام المتوقع، ولكن لم يكن هذا هو الاختبار الوحيد، كان هناك اختبارات ثانية حصلت قبل هذا الاختبار وفي نفس شهر شعبان، إعداد واضح من رب العالمين سبحانه وتعالى لمجموعة من المسلمين، سوف تغير بعد ذلك من خارطة العالم بكامله.
فمن الاختبارات المهمة التي حصلت قبل فرض القتال وفي شهر شعبان اختباران في غاية الأهمية: اختبار فرض الزكاة واختبار فرض صيام رمضان.
كانت الزكاة مفروضة على المسلمين في فترة مكة، لكن لم تكن بالنصاب المعروف وبالقدر الذي نعرفه، بل كانت متروكة لكل مسلم بقدر ما يستطيع دفعه، أما الآن فقد فرض على المسلمين أن يدفعوا قدراً معيناً مقداره 2.
5% إذا بلغ المال النصاب وحال عليه الحول.
وقيمة الزكاة وإن كانت قليلة إلا أن الإنسان بطبعه مجبول على حب المال، قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:20]، والإنسان بطبعه لا يحب القيود خاصة القيود المادية، وهكذا لن يقبل بفرض الزكاة إلا المؤمن حقاً.
كذلك اختبار الصيام، فإن الصوم المفروض على المسلمين حتى هذه اللحظة لم يكن إلا يوماً واحداً في السنة هو يوم عاشوراء، أما الآن فقد فرض عليهم صيام شهر كامل في السنة، وهو شهر رمضان، وهذا الفرض نزل في شهر شعبان، وعلى ذلك فإن المسلمين سيصومون شهر رمضان دون تهيئة نفسية مسبقة، وهذا شاق عليهم خاصة في هذه البيئة الصحراوية، فلن يثبت في هذا الاختبار إلا صادق الإيمان.
إذاً: الاختبار الأول: الزكاة، الاختبار الثاني: الصيام، الاختبار الثالث: فرض القتال.
بقي هناك اختبار رابع صعب جداً حصل في نصف شهر شعبان، وهو اختبار تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة في مكة.
وكل هذه الاختبارات كانت متتالية، حصلت في خلال أسبوعين من شهر شعبان، والمسلمون قبل هذا الحدث كانوا يصلون في اتجاه بيت المقدس (16) أو (17) شهراً، من أول الهجرة إلى منتصف شعبان من السنة الثانية من الهجرة.
وفي هذا إعلان لعموم الناس أن الرسالة الإسلامية ما هي إلا استكمال لرسالات الأنبياء السابقين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء جاءوا بمنهج واحد ويعبدون إلهاً واحداً، وفي ذلك تقريب لقلوب اليهود من سكان المدينة من الدين الجديد، فهم يشتركون مع المسلمين في قبلة واحدة، ويعظمون إلهاً واحداً، ويصومون يوماً واحداً.
ثم مرت الأيام والشهور، وظهر للجميع أن اليهود قوم فاسقون، أدركوا الحق واتبعوا غيره؛ لأجل ذلك نزل الوحي من السماء بتغيير القبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، وفرض صيام رمضان بدلاً من صيام عاشوراء، وكانت هذه التغييرات تحمل معاني سامية جداً من التميز للأمة الإسلامية، ومن التوجه إلى أشرف بقاع الأرض، ومن مخالفة اليهود الفاسقين، ومن غير ذلك من الأمور العظيمة، وفوق هذا كله كان فيها إشارة لطيفة إلى أن الله عز وجل سيفتح مكة للمسلمين في يوم ما؛ لأنه ليس من المعقول أن توجد قبلة قوم في بلد أعدائهم.
وبعد مشروعية استقبال الكعبة حصلت مشكلة صعبة، فاليهود كعادتهم حاولوا إثارة الفتنة وإشاعة الشبهات، واجتهدوا في ذلك تمام الاجتهاد، إذ صاروا يتهكمون من هذا التحويل للقبلة، ويقولون: إن المسلمين مترددون بين قبلتين، وقالوا: إذا اتجهتم إلى القبلة الجديدة فما شأن القبلة القديمة التي كنتم تصلون إليها؟ والذين كانوا يصلون باتجاه القبلة القديمة ثم ماتوا ماذا يفعل الله عز وجل بصلاتهم، فقد كانوا مخطئين في الاتجاه، كـ أسعد بن زرارة رضي الله عنه وأرضاه، والبراء بن معرور؟ وهكذا يحاول اليهود أن يثيروا الشبهات والفتن دائماً، فأنزل الله عز وجل يرد عليهم ويصفهم بالسفهاء، ويبين المفهوم الدقيق الذي يجب أن يدركه كل مؤمن، وهو أن الأمر كله لله عز وجل، يحكم بما يشاء وقت ما يشاء سبحانه وتعالى، هو المتصرف في خلقه وملكوته، ولا راد لقضائه سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَاوقفات مع غزوة بدر الكبرى
في يوم الفرقان كانت غزوة بدر الكبرى في (17) من رمضان سنة اثنين هجرية، هذه الغزوة قلبت الموازين كلها، بل تستطيع أن تقول: هي المعركة التي عدلت موازين العالم المقلوب وليس من الضروري أن تحدث نقاط التغيير المحورية في العالم نتيجة صراع بين قوة عالمية أولى وأخرى، لكن قد يبدأ التغيير بحدث لا يعطي أحداً من أهل الأرض أهمية، بل قد لا يشعرون به أصلاً، فمن كان يسمع عن غزوة بدر من أهل فارس أو أهل الروم أو أهل الصين أو أهل الهند؟ إن غزوة بدر في حسابات العسكريين معركة بسيطة جداً، 300 جندي يحارب ألف جندي في نقطة لا ترى على خارطة الأرض، وفي صحراء العرب الجرداء، وأي محلل عسكري سيحلل هذه المعركة بأنها مجرد صراع عابر، أو تستطيع أن تقول: مشكلة بين قبيلتين لا تحمل أي نوع من الخطورة على القوى العالمية الموجودة آنذاك، فجيوش الرومان كانت تقدر بالملايين في ذلك الوقت، وجيوش فارس كانت تزيد على مليوني جندي، هذه أعداد الجيوش فقط لا الشعوب، أما الشعوب فكانت تقطن في مساحات واسعة جداً، وهي الآن عشرات الدول؛ لذلك فإن غزوة بدر في التحليل السطحي غزوة عابرة، لا يرجى أن يكون لها أي أثر إلا في بعض النقاط غير المرئية في الصحراء، ومع ذلك فإن التحليل العميق يثبت غير ذلك تماماً، فبعد غزوة بدر ولدت أمة ثابتة راسخة، لها رسالة وهدف وطموح، تغير وجه التاريخ حقاً بعد هذا الميلاد.
قامت الدولة التي ستحمل على أكتافها قضية هداية الناس أجمعين إلى رب العالمين سبحانه وتعالى، ونشأت الأمة التي ستصبح خير أمة أخرجت للناس، وخرج الجيش الذي سيزلزل بعد ذلك عروش قيصر وكسرى، فغزوة بدر غزوة فرقت بين مرحلة كانت فيها دولة الإسلام ناشئة ضعيفة مهددة، ومرحلة أخرى أصبحت فيها دولة الإسلام معتبرة ومستقرة وقوية لها شأن في المنطقة، وكل الناس في العالم يسمعون عن دولة الإسلام؛ لذلك فإنه ليس من المستغرب أن الله سبحانه وتعالى سماها يوم الفرقان، فإن مقاييس رب العالمين سبحانه وتعالى ليست كمقاييس البشر، فإن الصدام المروع بين فارس والروم مرات عديدة لم يغير من وجه التاريخ.
قال تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:1 - 3]، فازت أو خسرت ليس هناك تأثير في الأرض، فما هي إلا لحظات عابرة مهما طالت في عمر البشرية، لكن بدراً وضعها مختلف، فالصدام البسيط الذي تم بين المدينة المنورة ومكة غير كل شيء في الأرض، وما زال يغير إلى يوم القيامة، فغزوة بدر لحظة فارقة حقاً، وإذا كان الأمر كذلك فلابد أن نقف طويلاً مع غزوة بدر.
إن غزوة بدر لم تكن غزوة عظيمة بأرضها أو بجغرافيتها أو بخطتها أو بنوعية السلاح الذي استخدم فيها، إنما كانت عظيمة بأهل الحق فيها ولو كانوا قلة بسطاء حقراء، أو بالتعبير القرآني كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123]، فكانت بدر عظيمة بالطائفة المؤمنة النبيلة التي شاركت فيها، فمن أجل هذه الطائفة حدثت تغييرات كونية هائلة، ومن أجل هذه الطائفة نزلت الملائكة، ومن أجل هذه الطائفة خضع الشيطان بل نكص على عقبيه مذموماً مدحوراً، فلا بد أن نقف وقفة وندرس هذه الطائفة النبيلة العظيمة الطائفة هذه يا إخواني أنا أرى أنها معيار للجيش المنتصر، جيش بدر مقياس لكل جيوش المسلمين الجيش الذي سيعرف يتصف بصفات جيش بدر سيعرف يحقق نصر مثل نصر بدر.الأسباب التي دعت إلى غزوة بدر الكبرى
عادت قافلة مكية من الشام إلى مكة بقيادة أبي سفيان، ومعظم القوافل التي خرج لها المسلمون قبل ذلك لم يحدث فيها قتال كما تعلمون، حتى القتال الذي حصل في سرية نخلة كان قتالاً بسيطاً، 10 من المسلمين يحاربون 4 من الكفار، لكن هذه القافلة كانت تختلف عن بقية القوافل في بعض الأمور المهمة: أولاً: هذه القافلة من أكثر القوافل المكية مالاً، فضرب هذه القافلة يمثل ضربةً اقتصاديةً هائلةً لمكة، فيها ألف بعير موقرة بالأموال، وفيها ما لا يقل عن خمسين ألف دينار ذهبي.
ثانياً: هذه القافلة ليست بقيادة قائد مغمور من قواد مكة أو تاجر عادي من تجار قريش، بل هي بقيادة أبي سفيان بن حرب من سادة قريش، ومع هذه القافلة حراسة مكونة من 30 إلى 40 مشركاً، أما قافلة نخلة فكان معها أربعة رجال فقط.
ثالثاً: هذه القافلة تمر بجوار المدينة في شهر رمضان، يعني: بعد شهر ونصف شهر فقط من أحداث سرية نخلة، وموقف المؤمنين مع هذه القافلة يؤكد صلابة موقفهم واستمرارية حربهم ضد المشركين، ويثبت أنهم ليسوا خائفين أبداً من آثار سرية نخلة، بل على العكس يعتبر هذا الخروج تأكيداً واضحاً لقوة المسلمين وتصميمهم على الحرب ضد قريش إلى النهاية، ولا شك أن هذا سيهز كفار مكة.
لذلك خرج الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بأكبر عدد من المسلمين، وإلى هذه اللحظة كل السرايا والغزوات السابقة لم يتجاوز عدد المسلمين فيها مائتين، لكنهم في غزوة بدر أصبح عددهم 313 أو 314 أو 317 على اختلاف الروايات، وقد خرج الأنصار لأول مرة مع المهاجرين، والغزوات والسرايا التي حدثت قبل بدر كلها كانت معتمدة على المهاجرين، كذلك كان خروج الأنصار في غزوة بدر برغبتهم أنفسهم، وبشورى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في صحيح مسلم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم استشار الناس في الخروج للقافلة، فأعلن أبو بكر الموافقة، وأعلن عمر الموافقة، وكثير من المهاجرين أعلنوا كذلك الموافقة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب المزيد من الرأي، حتى قال سعد بن عبادة زعيم الخزرج: (إيانا تريد يا رسول الله؟! فقال صلى الله عليه وسلم: أجل.
فقال: والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر -أي: الخيل- لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا) وبرك الغماد: مكان بعيد عن المدينة المنورة في اتجاه اليمن.
كانت هذه استشارة حصلت داخل المدينة المنورة، وعرض الأنصار أن يخرجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى هذه القافلة، وقبل الرسول عليه الصلاة والسلام هذا العرض، وفعلاً خرج الأنصار، بل معظم الجيش كان من الأنصار، فعدد الأنصار في بدر كان 231 أنصارياً، 61 من الأوس، و 170 من الخزرج، والمهاجرون كانوا 83 فقط، يعني: ثلثي الجيش تقريباً من الأنصار، وتزود الرسول صلى الله عليه وسلم بسلاح المسافر، وأخذ معه فرسين وسبعين من الإبل، وقسم جيشه إلى مهاجرين وأنصار، وأعطى راية المهاجرين لـ علي بن أبي طالب، وراية الأنصار لـ سعد بن معاذ، وأعطى الراية العامة للجيش لـ مصعب بن عمير رضي الله عنهم أجمعين، وجعل على الساقة في مؤخرة الجيش قيس بن أبي صعصعة رضي الله عنه.
كان هذا الإعداد في منتهى القوة، هذا الجيش خرج لقافلة يحرسها 30 أو 40 رجلاً، أي: أن الجيش الإسلامي عشرة أضعاف حراس قافلة مكة تقريباً، والمخابرات الإسلامية حددت أن القافلة ستمر قريباً جداً من بدر، وهي على بعد حوالي 70 كيلو متر جنوب المدينة المنورة، وهكذا اتجه الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة إلى بدر حتى يقطع الطريق على القافلة.
كانت القافلة المكية على رأسها أبو سفيان بن حرب، وهو من أذكى وأدهى العرب، وكان له مخابرات استطاع من خلالها أن يعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة المنورة قاصداً القافلة، لكنه لم يعلم بعد إلى أين وصل الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يضيع وقتاً، بل أرسل رسالة سريعة إلى مكة يستنفر جيش مكة للخروج لإنقاذ القافلة، أرسل الرسالة مع واحد اسمه ضمضم بن عمرو الغفاري، فلما وصل ضمضم إلى مكة وقف على بعيره وشق قميصه، وبدأ يصرخ في أهل مكة: يا معشر قريش! يا معشر قريش! اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها.
الغوث الغوث! ونفر الناس كلهم، فما تزال مصيبة سرية نخلة قريبة، وكلهم أخذ الموضوع بمنتهى الجدية.
وبدءوا في جمع المقاتلين من كل مكان، وأعدوا جيشاً كبيراً على أعلى مستوى، كان تعداده 1300 مقاتل من قريش وما حولها من قبائل العرب هذا الإعداد الأول، وخرجوا بمائة فرس و (600) درع، وجمال كثيرة جداً لا يعرف عددها، لكنهم كانوا ينحرون 9 أو 10 من الإبل للطعام فقط يومياً، وخرج مع قيادة الجيش كل زعماء الكفر تقريباً: أبو جهل
تحقيق مبدأ الشورى بين أفراد الجيش المؤمن
نقلت الاستخبارات الإسلامية خبرين في منتهى الأهمية: الخبر الأول: هروب القافلة، الخبر الثاني: جيش مكة على مقربة من بدر، فالوضع خطير جداً، وإعداد المسلمين كان قوياً جداً بالنسبة لقافلة تجارية، لكن لاشك أنه ضعيف جداً بالنسبة لجيش نظامي خرج مستعداً للقتال، فلا يوجد سوى اختيار من اثنين: إما الرجوع إلى المدينة وتجنب القتال، وإما التقدم إلى بدر والصدام المروع، ومن هنا نركز على هذه القضية؛ لأن كل موقف سيحمل ملمحاً من ملامح النصر، وسيكون فيه إشارة إلى عامل من عوامله.
إن كل صفات الجيش المنتصر تجمعت في جيش بدر، وأي جيل مسلم يريد أن ينتصر لا بد أن يعرف صفات جيل بدر جيداً، ولا بد أن يستوعب سورة الأنفال جيداً، فهي سورة تحدثت عن غزوة بدر، والرسول صلى الله عليه وسلم أمامه خياران: الرجوع أو القتال.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد القتال؛ لأن الرجوع له آثار سلبية كبيرة، فهو سيهز جداً كيان المسلمين، وسيضيع مكاسب سرية نخلة، وسيشجع الكفار على التمادي في الحرب على المسلمين، فكلما رجع المسلم خطوة احتلها عدوه، ولا يستبعد مطلقاً إذا رجع الجيش المسلم أن يستمر الجيش المكي في المسير ويغزو المدينة، وعندئذ سيكون الخطر أكبر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس قائداً ديكتاتورياً كـ أبي جهل.
فالقائد الديكتاتوري يبرز فهمه دائماً لمن يقودهم، والذين من حوله يحاولون أن يفهموه أن رأيه فقط هو الرأي الصحيح، وأنه يفهم في كل شيء؛ لذلك فعليه ألا يضيع وقته ووقت شعبه في الاستشارات، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن كذلك، فمع أنه أحكم البشر كان يستشير أمته في كل القضايا التي لم ينزل فيها وحي، فإذا كان هناك أمر من الله في قضية من القضايا فإنه لا يجوز للمسلمين أبداً أن يتشاوروا في تطبيق الأمر من عدمه، وإذا لم يكن هناك أمر من الله فلابد من الشورى، وكل تحركاته صلى الله عليه وسلم كانت بالشورى، لما خرج من المدينة للقافلة خرج بالشورى، ولما قرر أن يحارب لم يحارب إلا بشورى، وسنرى للشورى مواضع كثيرة بعد ذلك في بدر وفي غير بدر.
إذاً: نستطيع أن نقول ببساطة: إن من أهم ملامح الجيش المنتصر أن يكون جيشاً يعظم الشورى الحقيقية وليست الشورى التمثيلية الهزلية على الشعب، بل شورى حقيقية تهدف إلى قرار يصلح الأمة، وهكذا عمل الرسول صلى الله عليه وسلم مجلساً استشارياً كبيراً تبادل فيه الرأي ليس فقط مع قادة الجيش ولكن مع عامة الجيش، فقام المستشار الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق وأيد الحرب ضد الكافرين، وكذلك قام المستشار الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال نفس الكلام، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه وأرضاه وقال كلاماً رائعاً علق عليه عبد الله بن مسعود.
قال: شهدت من المقداد بن عمرو مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به، قال: (يا رسول الله! امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إن ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك حتى نبلغه).
سر الرسول سروراً عظيماً بكلام المقداد، ولكن ما زال يطلب الاستشارة ويقول: (أشيروا علي أيها الناس! أشيروا علي أيها الناس!)، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مواقف كثيرة يكتفي باستشارة أبي بكر وعمر، ويقول: لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما، لكن هنا ما زال ينتظر استشارة الأنصار، فإنه لم يسمع رأي الأنصار بعد، فالأنصار قبل ذلك في المدينة أعلنوا موافقتهم على الخروج معه للقافلة، لكن الآن ليس هناك قافلة، وإنما قتال مع جيش كبير، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لو أمر الأنصار لأطاعوه فوراً، فهم في أعلى درجات الإيمان رضي الله عنهم أجمعين.
لكن الرسول يذكر بيعة العقبة الثانية، وفيها بايع الأنصار على نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قدم إليهم في المدينة، ولم يبايعوه على الحرب خارج المدينة، والأمر ليس فيه تكليف إلهي الآن فيسمع الجميع ويطيع، ولكن فيه الشورى، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يكره الأنصار على القتال، فشتان بين من يقاتل وهو مكره، ومن يقاتل وهو راغب في الجهاد، ولا ننسى أن الأنصار ثلثا جيش المسلمين، فهذا الطلب المتكرر للاستشارة: (أشيروا علي أيها الناس! أشيروا علي أيها الناس!)، لفت نظر سيد الأنصار سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، وكان حامل لواء الأنصار حينها، فقام وقال: (لكأنك تريدنا يا رسول الله؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، قال سعد: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله! لما
صفة الإيمان بالله ورسوله
من موقف المؤمنين الباسل سنجد أكثر من صفة من صفات الجيش المنتصر.
أولاً: ذكرنا قصة الشورى وأهمية الشورى في بناء الأمة الإسلامية.
ثانياً: لنا صفة هي من أهم صفات الجيش المنصور، بل هي أهم الصفات مطلقاً، ظل الرسول صلى الله عليه وسلم (13) سنة في مكة وبعد ذلك في المدينة يزرعها في المسلمين، وهي صفة الإيمان الكامل بالله عز وجل وتوجيه النية كاملة إليه، والإيمان الكامل برسوله صلى الله عليه وسلم واتباعه اتباعاً لا تردد فيه، فإن جيش مكة خرج ليتحدث الناس عنه، خرج لإرضاء شهوات النفس ولغرض الصد عن سبيل الله بطراً ورئاء الناس، بينما صدق التوجه كان واضحاً في كل كلمة من كلمات الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فهم يعلمون أنهم في مهمة سامية وغرض نبيل، لا يرجون من ورائها إلا الثواب من الله عز وجل، فالله غايتهم بمعنى الكلمة، ومن غير صفة الإيمان هذه لا يوجد نصر، فالجيش العلماني لن ينصر أبداً، والجيش العاصي لن ينصر، والجيش الفاسق لن ينصر، والجيش الذي يقاتل من أجل القائد لن ينصر، والجيش الذي يقاتل من أجل قبلية أو عصبية لن ينصر، والجيش الذي لا يعرف أصلاً لماذا يقاتل لا يمكن أن ينصر أبداً، وهناك جيوش كثيرة جداً وأحياناً مسلمة لا تعرف لماذا تقاتل؟ القائد أمر، لكن لماذا أمر وكيف أمر؟ ويا ترى! هل هذه الحرب ترضي الله أم تغضبه؟ ولا أحد يعرف لأنه لا يسأل، فهذا لا يمكن أن ينتصر، فالنصر في المفهوم الإسلامي من عند الله عز وجل: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، ونصر الله عز وجل يكون بطاعته وتطبيق شرعه، والجيش الإسلامي أصبح له 15 سنة كاملة يتربى على هذا المعنى، وهذه أهم صفة من صفات الجيش المنتصر.
صفة الأمل والتفاؤل واليقين بنصر الله عز وجل
الصفة الثالثة: صفة الأمل: (سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، ووالله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)، والجيش المحبط من المستحيل أن ينتصر، والإحباط لا يأتي إلا من تفاهة المهمة التي يقاتل من أجلها الجيش، والدنيا بكاملها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فالذي يقاتل من أجل الدنيا لا شك أنه سيحبط، ومن أحبط لاشك أنه سيهزم.
صفة الحزم وعدم التردد
الصفة الرابعة: صفة الحسم وعدم التردد.
إن مرحلة الشورى هي مرحلة تداول الرأي، فإن استقر المسلمون على رأي فلابد من الحسم في تنفيذه؛ لأن التردد والتسويف يضعف الهمة ويزيد من جرأة العدو ويفتح أبواباً للشيطان، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]، فمع خطورة الموقف وقلة إعداد المسلمين وقوة الجيش الكافر إلا أن المسلمين أقدموا دون أي تردد.
رأينا في الجيش الكافر تردد أمية بن خلف في الخروج، ورأينا انسحاب الأخنس بن شريق، ورأينا رفض الجميع للقتال ودفع أبي جهل لهم، ورأينا خوفهم من الخروج في البداية، وتمثل الشيطان لهم في شكل سراقة بن مالك بن جعشم، رأينا كل ذلك.
ولا زلنا سنرى تردداً آخر، فأهل الباطل في تخبط دائم، فقد كان عتبة بن ربيعة رافضاً للقتال تماماً، وهو من قادات مكة، وقف يقول للقوم: يا قوم! أطيعوني في هؤلاء القوم، فإنكم إن فعلتم لن يزال ذلك في قلوبكم، ينظر كل رجل إلى قاتل أخيه وقاتل أبيه.
يعني: سندخل في معركة، ويقتل بعضكم بعض المسلمين، وهم إخوانكم وآباؤكم وأبناؤكم، فالمشرك سيقول للمشرك الآخر: نعم.
أنت من قتلت أبي في موقعة بدر.
ثم أبدى النصيحة وقال: فاجعلوا حقها برأسي وارجعوا.
هذه نصيحة واحد من قادة مكة في أرض المعركة، غضب أبو جهل غضباً شديداً وقال: انتفخ والله سحره.
السحر: هو الرئة، وهذه علامة على الجبن، ثم قال أبو جهل: إنما محمد وأصحابه أكلة جزور لو قد التقينا.
يعني: العرب كانوا يقدرون أكلة الجزور بمائة رجل، ورد عتبة على أبي جهل، لكن لنتذكر أولاً رد سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فينا من أمر فأمرنا تبع لأمرك).
سبحان الله! تجرد كامل لله عز وجل، ليس له أي مصلحة في الموقعة من مصالح الدنيا، لكن انظر إلى المشاكل التي كانت موجودة بين المشركين في أرض المعركة، فهذا عتبة أحد القادة مع أبي جهل في صراع أمام كل الجيش، وهذا يؤثر سلباً على نفسية الجيش.
قال عتبة: ستعلم من الجبان المفسد لقومه، وهكذا بدءوا يدخلون في الملاسنات والمعركة لم تبدأ بعد، ثم قال عتبة بن ربيعة قولاً يعبر عن رعبه الداخلي: أما والله إني لأرى قوماً يضربونكم ضرباً.
سبحان الله! المسلمون 300 مقاتل والكفار 1000 مقاتل ومع ذلك يقول: أما والله إني لأرى قوماً -يعني: المسلمين- يضربونكم ضرباً، أما ترون رءوسهم كالأفاعي وكأن وجوههم السيوف! هذه هي نفسية من يحاربون الإسلام، جاء حكيم بن حزام حينها وكان مشركاً وأسلم بعد ذلك رضي الله عنه، جاء إلى عتبة بن ربيعة يقول له: يا أبا الوليد! هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت، قال: ماذا أفعل؟ قال: إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي -يقصد الذي قتل في سرية نخلة- وهو حليفك فتحمل ديته وترجع بالناس، يعني: إذا كانت المشكلة في دية ابن الحضرمي فادفعها أنت لعائلته وارجع بالناس، فقال عتبة بن ربيعة: أنت وذاك، واذهب إلى ابن الحنظلية -يعني: أبا جهل - فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك، يقرب له نسب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، أي: قريبك في الرحم، لعله يرجع، فانظر إلى حجم التشجيع، فذهب حكيم إلى أبي جهل وقال له ذلك، فرد أبو جهل: أما وجد رسولاً غيرك.
هذا أبو جهل يكلم أحد أشراف مكة حكيم بن حزام، لكن كان جوابه بمنتهى الغرور.
قال له: أما وجد رسولاً غيرك، قال: لا، لم يجد غيري، ولم أكن لأكون رسولاً لغيري.
أي: أنا رسول لواحد من أشراف مكة أيضاً عتبة بن ربيعة، ومع ذلك رفض أبو جهل وأصر على القتال, وتصرفه يعبر عن ديكتاتورية مطلقة.
ذهب عمير بن وهب الجمحي وذلك قبل أن يسلم ليقدر أعداد المسلمين، فعاد إلى قريش وقدر العدد بثلاثمائة أو نحو ذلك، ومع أن جيش المسلمين ثلث جيش الكفار إلا أن عمير بن وهب قال: ولكني قد رأيت يا معشر قريش! البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم، ووالله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم، فإن أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم.
فانظر إلى حجم التردد الذي يعيشه أهل الباطل، فكيف سيقاتلون مثل هؤلاء؟! لكن كل من يحارب الإسلام تكون هذه حالته.
يوم بدر
لأهل الحق مميزات يتميزون بها عن أهل الباطل، فأهل الإيمان بالله يعيشون حياةً هدفهم فيها إرضاء الله عز وجل، فهم يحبون الموت في سبيل الله؛ لأنهم يعلمون أن وراء ذلك جنة عرضها السماوات والأرض، وهم متوكلون على الله يأخذون بالأسباب؛ لذلك أيدهم الله عز وجل في كل زمان ومكان، ونصر الله للمؤمنين يوم بدر خير دليل على ذلك.
مقدمات بين يدي غزوة بدر الكبرى
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس السابع من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.
تحدثنا في الدرس السابق عن مقدمات الغزوة العظيمة غزوة بدر، وذكرنا فروقاً هائلة بين صفات الجيش الذي ينصره رب العالمين سبحانه وتعالى، والجيش الذي يفتقر إلى أي تأييد، الجيش المنصور جيش مؤمن بالله، ويعمل لله عز وجل بكل ذرة في كيانه، والجيش المهزوم جيش كافر أو فاسق أو منافق أو عاص لا يعمل إلا لمصالحه الذاتية ولأهوائه الشخصية، لا يهمه إلا صورته أمام الناس.
الجيش المنصور جيش متفائل يوقن بنصر الله عز وجل له، والجيش المهزوم جيش محبط فاقد للأمل.
الجيش المنصور جيش حاسم غير متردد، والجيش المهزوم جيش متردد جبان لا يقوى على أخذ قرار.
الجيش المنصور يطبق الشورى فيما لا نص فيه، والجيش المهزوم جيش يطبق الديكتاتورية ليس فيه إلا رأي الزعيم فقط، ولا ينظر مطلقاً إلى آراء الشعب.
كانت صفات الجيش المنصور موجودة بكاملها في جيش المدينة المؤمن، وكانت صفات الجيش المهزوم موجودة بكاملها في جيش مكة الكافر، ولم تكن هذه فقط صفات الجيوش المنتصرة والمهزومة، فلا تزال هناك صفات أخرى كثيرة، سنتعرف عليها اليوم من خلال الحديث عن يوم الفرقان يوم بدر.
عملية الاستكشاف من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم لجيش المشركين في بدر قبل القتال
وصلنا في الدرس الفائت إلى أن الجيش المكي عسكر في منطقة العدوة القصوى يعني: جنوب وادي بدر، والجيش المسلم اقترب من بدر في المنطقة الشمالية منه، وتعرف بالعدوة الدنيا.
قام صلى الله عليه وسلم بعملية استكشافية بنفسه هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، واستطاعا أن يعرفا مكان جيش مكة، لكن لم يستطع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعرف أعداد القوم ولا قادتهم، فأرسل فرقة استكشافية ثانية كان فيها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين، وأمسكت الفرقة غلامين من جيش العدو، وأحضروهما إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم في استجوابهما.
قال: (أخبراني عن قريش.
قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى قال: كم القوم؟ قالا: كثير، قال: ما عدتهم؟ قالا: لا ندري، قال صلى الله عليه وسلم: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً، قال صلى الله عليه وسلم: القوم فيما بين التسعمائة والألف)، فاستطاع أن يحدد بالضبط العدد الحقيقي لجيش مكة؛ لأنهم كانوا يعلمون أن الجمل يكفي مائة تقريباً للأكل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فمن فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد).
إذاً: كل قادة مكة موجودون في جيش مكة الذي خرج إلى بدر، فأقبل الرسول عليه الصلاة والسلام على المؤمنين وقال لهم: (هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها).
اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم مكان موقعة بدر وسماعه لمشورة الصحابة
علم الرسول صلى الله عليه وسلم معلومات مهمة جداً عن الجيش المكي، فقام بترجمتها إلى أعمال، وبسرعة أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم جيشه، واتجه إلى أرض بدر؛ ليختار الأرض التي ستتم عليها الموقعة قبل عدوه، حتى يضع جيشه في مواقع إستراتيجية داخل أرض الموقعة، واختار الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه مكاناً للنزول في أرض بدر، واستقر فيه في تلك الليلة، فجاء إليه الصحابي الجليل الحباب بن المنذر رضي الله عنه من الأنصار، وهو من الخبراء العسكريين المعروفين بدقة الرأي وعمق النظرة، وسأل النبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلك الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟)، يعني: إن كان هذا هو اختيار رب العالمين سبحانه وتعالى فليس لنا أن نختار، وإن كان اختياراً بشرياً مبنياً على الفكر العسكري والتدبير الحربي فمن الممكن أن ندلي فيه بآرائنا، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله! فإن هذا ليس بمنزل)، أي: هذا ليس مناسباً، قالها بوضوح دون خجل ولا مواربة؛ لأن الموضوع خطير وهذه مسئولية، فما الرأي إذاً؟ (قال الحباب: فانهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم -أي: أقرب ماء من قريش- فننزله وتغور -يعني: تخرب- ما وراءه من القلب -جمع قليب الآبار الموجودة في منطقة بدر- ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون)، هذا هو منتهى الحكمة، فالماء في الصحراء في غاية الأهمية، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام دون أدنى تردد: (لقد أشرت بالرأي)، وبالفعل غير مكانه الأول ونزل في المكان الذي أشار إليه الحباب بن المنذر رضي الله عنه.
ولنا وقفة مهمة مع إيجابية الحباب رضي الله عنه، قد يتخيل الواحد منا أن أي واحد من الصحابة إذا رأى الرسول عليه الصلاة والسلام عمل شيئاً لا يقول رأيه؛ لاحتمال أن يكون وحياً، حتى ولو لم يكن وحياً لا يقول، والرسول صلى الله عليه وسلم أحكم البشر وأفضل العالمين، ومن المؤكد أن رأيه البشري أحسن من رأي الآخرين، لكن هذا التصور لم يكن عند الصحابة، بل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كان عندهم إيجابية رائعة، فلو رأى الصحابي شيئاً ويعتقد أن هناك ما هو أولى منه يذهب ويدلي برأيه، حتى لو لم يطلب منه ذلك؛ لأنه يدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر، ويجري عليه في الأمور التي ليس فيها وحي ما يجري على عامة البشر من اختيار صحيح مرةً وخطأ مرةً أخرى، أو على الأقل يختار خلاف الأولى في أمر من الأمور.
وهكذا أدرك الحباب أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، وهكذا يفتح الرسول عليه الصلاة والسلام المجال الواسع لكل فكر وإبداع وإضافة، وبهذا تشارك كل عقول المسلمين لخدمة الأمة الإسلامية، فلو كان رأي الحباب خطأً فإن الرسول صلى الله عليه وسلم سيعرفه الرأي الصحيح، ويكون قد تعلم شيئاً، أو على الأقل قاتل وهو مقتنع بوجهة النظر الأخرى.
وهذا يرجعنا إلى مبدأ الشورى من جديد، ويرينا كيف نستفيد من طاقات المجتمع؟ وكيف يمكن أن نستغل المواهب الهائلة التي وزعها الله على خلقه بحكمة عجيبة؟ فلو كان هناك كبت لآراء الجنود لما عرف الرسول عليه الصلاة والسلام المكان المناسب في بدر، وهذا سيكون له ضرر على الأمة كلها لا على الرسول صلى الله عليه وسلم فقط.
فالشورى أمر حتمي لأمة تريد النهوض، فإنه بعد النزول في المكان الذي حدده الحباب رضي الله عنه قام الصحابة بالإشارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر اختلف فيه الرواة، وهو بناء العريش أو مقر القيادة؛ لكن سواء تم بناء هذا العريش أو لم يتم، فإن الثابت حقيقة أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ينعزل عن جيشه أبداً في موقعة بدر، فمع أنه القائد الأعلى للجيش قاتل معهم بنفسه، بل كان أقربهم إلى العدو.
روى الإمام أحمد بن حنبل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (لما حضر البأس يوم بدر اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أشد الناس صلى الله عليه وسلم، ثم يقول علي بن أبي طالب: ما كان أحد أقرب إلى المشركين منه).
فهذا كلام في منتهى الأهمية؛ لأنه يثبت لنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان مشاركاً لجيشه ولشعبه، ويعيش معهم في كل قضاياهم.
نزول السكينة والمطر والنعاس على جيش المسلمين
حصل في ليلة بدر أمران في غاية الأهمية غير النزول في مكان بدر: أولاً: النعاس الذي غلب المسلمين في ليلة بدر بعدما وصلوا وعسكروا في المكان.
ثانياً: المطر الذي نزل في نفس الليلة، فالنعاس كان أمره عجيباً، كان المسلمون على بعد خطوات من الجيش المكي الكبير، ومع ذلك يصلون إلى حالة من السكينة وهدوء الأعصاب، فينامون بأمان تام في أرض بدر، ومعلوم أن الشخص لما يكون منشغلاً بشيء مهم لا يستطيع أن ينام بمنتهى الأمان وهو في وسط بيته، فما بالك بشخص نائم في أرض المعركة وهو منشغل بها، فمن الممكن أن تكون نهايته فيها؟ لكنه هدوء أعصاب عجيب، لا يفكر في عدد الأعداء، ولا يفكر في طريقة القتال، ولا يفكر في سيناريو المعركة، ولا يفكر في أولاده وزوجته، ولا يفكر في تجارته ولا حتى في نفسه، بل نائم في منتهى الراحة، ففي هذه الليلة نام الجميع إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ظل طوال الليلة يصلي ويدعو الله عز وجل أن ينصر هذا الجيش المؤمن.
على الناحية الثانية كان جيش مكة حيران لا يعرف النوم، فغداً موقعة مرعبة بالنسبة لهم، بالإضافة إلى أنه ليس مقتنعاً بالحرب أصلاً، وعلى ماذا يحارب، من أجل هبل واللات والعزى، أم من أجل القائد الزعيم أبي جهل، أم من أجل القافلة؟ فالقافلة قد تجاوزت الخطر، وأبو سفيان عبر بها إلى بر الأمان فعلام القتال؟ فقد يموت المشرك غداً، أو يصبح أسيراً أو جريحاً أو هارباً ومطارداً، فيا لها من نفسية مضطربة مريضة! {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
كذلك المطر في ليلة بدر كان عجيباً جداً، فمنطقة بدر كلها عبارة عن واد صغير، فسحابة واحدة صغيرة قد تغطي الوادي كله، فنزول المطر في ليلة بدر على أرض بدر فقط غريب جداً، فقد نزل هيناً لطيفاً خفيفاً على المسلمين ونزل وابلاً شديداً معوقاً على الكافرين، شرب المسلمون واغتسلوا وتماسك الرمل في معسكرهم تحت الأقدام، فثبتت الأقدام، وذهبت عنهم وساوس الشيطان، وقد جاء الشيطان إلى بعضهم بسبب الجنابة وقلة الماء وقال لهم: كيف ستصلون؟ كذلك آية التيمم لم تكن قد نزلت بعد، فقال الله عز وجل: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11].
أما الكفار فقد أحدث المطر مخاضة كبيرة عندهم، منعت التقدم وأعاقت الحركة، وليس لأحد طاقة بحرب الله عز وجل.
مقارنة بين دعاء المؤمنين لربهم ودعاء الكافرين يوم بدر
في صباح يوم بدر كانت أول كلمات الرسول عليه الصلاة والسلام دعاء لرب العالمين سبحانه وتعالى، دعا أمام الناس جميعاً ليذكرهم بالله عز وجل الذي بيده النصر والتمكين، رفع يده وقال: (اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة)، فالنبي صلى الله عليه وسلم من وقت خروجه من المدينة يدعو الله سبحانه وتعالى أن يأتي بالنصر، فعندما خرج من المدينة المنورة إلى بدر كان يقول: (اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم جياع فأشبعهم)، وقبل القتال كان يقول: (اللهم فنصرك الذي وعدتني)، وأثناء القتال كان صلى الله عليه وسلم شديد الابتهال إلى ربه، كان يرفع يده إلى السماء ويستقبل القبلة ويقول: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) واستمر صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا رافعاً يديه إلى السماء حتى سقط رداءه من على كتفيه، فأتاه الصديق رضي الله عنه وأرضاه فرفع الرداء من على الأرض، ووضعه على كتف الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال له برقة وهو يمسك بكتفي الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك)، فانظر إلى طول الدعاء وطريقته حتى جعل أبو بكر الصديق يشفق على الرسول عليه الصلاة والسلام من كثرة الدعاء، ولم يكن هذا الدعاء من الرسول عليه الصلاة والسلام فقط، بل كان من الجيش كله، فكل الجيش مرتبط بالله سبحانه وتعالى؛ لذلك قال الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ} [الأنفال:9] أي: جميعاً تستغيثون بالله، وكل هذا يؤكد على أهم صفة من صفات الجيش المنصور، ألا وهي صفة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والاعتقاد الذي لا ريب فيه أنه هو الذي ينصر ويمكن ويعز ويرفع سبحانه وتعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10]، هذا كان دعاء الفريق المؤمن.
لكن الغريب أن الكفار أيضاً كانوا يدعون الله، وعلى رأس الذين كانوا يرفعون أيديهم بالدعاء أبو جهل، كان يقول: اللهم أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة.
ويستخدم نفس الكلمة التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم.
إن دعاء أبي جهل هذا يدعو إلى العجب والحيرة، فكتب السيرة تنقل لنا كثيراً مواقف في فترة مكة تثبت بما لا يدع أي مجال لشك أن أبا جهل كان يعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على حق، ويعرف أنه نبي، ويعرف أن القرآن معجز ويعرف أن الملائكة تحرس النبي صلى الله عليه وسلم، عرف ذلك بوضوح في أكثر من موقف، ومع ذلك فهو الآن يدعو وبصوت يسمعه الجميع أن ينصر الله عز وجل الأحب إليه! فتفسير دعاء أبي جهل يحتمل أمرين في رأيي، الأمر الأول: أنه يصنع نوعاً من التحفيز المعنوي لجنوده، فكثير من جنود الباطل يحسون بالضعف؛ لتفاهة قضيتهم، ولشعورهم المستمر أن المسلمين معهم قوة كبيرة أكبر من قوة البشر، فيقوم القائد الكافر بإيهام جنوده أنهم على حق، وأن مهمتهم سامية، وأنهم يعملون للخير، ليس خيراً لهم فقط، بل يعملون لخير المجتمع والوطن، بل والعالم، فقد يقنعهم كما كان يفعل أبو جهل بأن ما يقومون به من قتال هو جزء من الدين، وأنهم متدينون ومخلصون ومتبعون للآلهة، وهذه محاولة دنيئة لإضلال القوم، كما قال الله في حق فرعون: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه:79]، وقال فرعون نفسه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29]، فيحاول أن يقنعهم أن كل الإجرام الذي يقوم به هو وأمثاله من الطواغيت ما هو إلا خير وهدى ورشاد وإصلاح، وهذا الأمر نراه كثيراً سواء في الطواغيت القدماء أو في الطواغيت المعاصرين، فكلهم يقولون: إنهم مصلحون.
الأمر الثاني: أن الطاغية حينما يستمر في إقناع الناس أياماً عديدة أنه مصلح ومتدين وأخلاقه عالية، يصدق نفسه أنه على خير، وقد كان من قبل يخدعهم بالباطل وهو يعرف أنه على باطل، كذلك البطانة التي من حوله تقنعه أنه على حق، وأنه عبقري ومصلح ومؤدب وخيِّر وطيب ورحيم؛ فيصدق الطاغية نفسه ويصدق أعوانه الذين من حوله، فيصبح مقتنعاً أنه على صواب، وهذه مرحلة في منتهى الخطورة تدل على عمى البصيرة، فلا يرى الحق من الباطل، ولا يستطيع أن يميز الصواب من الخطأ، ففي المرحلة الأولى كان يميز الصواب من الخطأ، لكنه كان يعمل الخطأ لهوى في نفسه أو لمصلحة أو هدف، أما الآن فإنه لم يعد يستطيع أن يرى: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف:1
التكتيك لأمر القتال والأخذ بالأسباب المادية
بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يصف الصفوف، وكانت هذه أول مرة يحارب فيها العرب في صف الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لذا كان حريصاً على جعل الصف متساوياً ومتراصاً في منتهى النظام، وبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام يلقي على جيشه بعض الأوامر العسكرية لتنظيم العملية الحربية، قال: (إذا أكثبوكم -أي: اقتربوا منكم- فارموهم بالنبل)، فأمرهم بالرمي عليهم عند الاقتراب، حتى لا يطلقوا السهام والكفار لا يزالون بعيداً فلا تصل السهام إليهم.
وأحياناً يكون المقاتل في حالة عصبية شديدة، ويطلق السهام في كل مكان بدون تركيز، وهذا يضيع الذخيرة على المسلمين، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم: لا تطلقوا هذه السهام إلا عندما يقتربون ويصبحون في مرمى السهام بعد ذلك ابدءوا في ضربهم، في رواية البخاري يقول: (واستبقوا نبلكم) أي: حافظوا على الذخيرة، ولا تقوموا بإهدار هذه السهام، ثم يقول: (ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم) لا ترفعوا السيوف من أغمادها إلا بعد أن يقترب الجيش تماماً.
إن هذا التكتيك النبوي يحتاج منا إلى وقفة؛ حتى نعرف صفة مهمة من صفات الجيش المنصور، فمن صفات الجيش المنصور: الإعداد الجيد والأخذ بكل أسباب النصر المادية، والعمل بكل ما هو متاح في اليد لتحقيق النصر، وقد رأينا كيف حصلت المخابرات الإسلامية على أخبار جيش مكة، ورأينا الموقع العسكري المتميز الذي نزلوا فيه، ورأينا التوجيهات العسكرية الحكيمة، ورأينا الصفوف والترتيب، وسنرى أيضاً مهارة القتال وقوة الضربات والشجاعة والإقدام والاحترافية في الحرب، فهو إعداد في منتهى الروعة، إذ الجيش كله يتكون من فرسين وسبعين جملاً، وعدة المسافر ليست عدة المحارب، لكن هذه هي الإمكانيات التي في استطاعتهم، والرسول عليه الصلاة والسلام أعد كل ما في استطاعته؛ لذلك ليس غريباً أن تجد في سورة الأنفال قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60].
تواضع القائد مع جنده وانصهاره فيهم
هناك موقف مهم وعجيب حصل أثناء تسوية صفوف المقاتلين المسلمين، هذا الموقف يعرفنا أيضاً على صفة مهمة من صفات الجيش المنصور أثناء تسوية الصف، فالرسول صلى الله عليه وسلم وجد صحابياً متقدماً عن غيره من الصحابة في الصف، وغير مستو في مكانه، فجاء إليه صلى الله عليه وسلم وكان يمسك بيده قدحاً -سهماً بلا نصل- يسوي بها الصف، وكان اسمه سواد بن غزية رضي الله عنه، فضربه بالقدح ضربة خفيفة في بطنه، وقال له: (استوِ يا سواد!)، لكن العجيب في الموقف هو رد فعل سواد رضي الله عنه الذي فاجأ الجميع بقوله: (يا رسول الله! أوجعتني فأقدني)، يعني: الضربة أوجعتني وأنا أريد القصاص، يريد أن يقتص من رسول الله صلى الله عليه وسلم قائد الجيش، بل قائد الدولة الإسلامية، لكن الأعجب من كل هذا رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد استجاب دون أي جدل لطلب سواد، ولم يقل له: الضربة خفيفة وأنا قائد الجيش، وليس فقط ذلك، بل إن سواداً كانت بطنه عارية، فلما ضربه الرسول عليه الصلاة والسلام جاءت الضربة على بطنه مباشرة، فكشف الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه ليضربه سواد ضربة مماثلة تماماً على البطن مباشرة ودون ثياب.
فهل هذا الموقف يحصل في الجيش الآن بين جندي وعقيد أو حتى رائد أو نقيب؟ لن أقول لك: لواء أو مشير.
هل هذا من الممكن أن يحصل؟ لكن هذا الحدث حصل في التاريخ مع الرسول عليه الصلاة والسلام، حصل مع قائد الدولة بكاملها، كشف عن بطنه وقال: (استقد)، خذ حقك.
اضرب، لكن سواداً اعتنقه وقبل بطن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على هذا يا سواد؟ قال: يا رسول الله! قد حضر ما ترى -أي: حضر أمر القتال والحرب- فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك) فدعا له صلى الله عليه وسلم بخير.
ولم يمت سواد في بدر، لكنه لفت أنظارنا إلى صفة أصيلة من صفات الجيش المنصور، هذه الصفة هي تلاحم القائد مع شعبه وانصهاره فيه، فالجيش المنصور لا فرق فيه بين قائد وجندي، والأمة المنصورة لا فرق فيها بين حاكم ومحكوم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار في بيعة العقبة الثانية: (أنا منكم وأنتم مني)، وقد رأينا هذا الأمر قبل ذلك في مكة، وفي قصة بناء المسجد النبوي، ورأيناه الآن في كل خطوات بدر، وسنراه كثيراً من أول لحظات الخروج من المدينة إلى بدر، فقد كان الصحابة يتناوبون على الإبل لقلة عددها، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام وهو قائد الجيش يتناوب في الركوب مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومرثد بن أبي مرثد رضي الله عنه، وفي رواية: مع أبي لبابة رضي الله عنه.
وأثناء السفر قال الصحابيان للرسول صلى الله عليه وسلم: نحن نمشي عنك، فانظر إلى رد الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما أنتما بأقوى مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما)، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم يريد أجر المشي في سبيل الله، وهذا التصرف يزيد من حماسة الجند، وذلك عندما يجد القائد معه في كل خطوة من مشاكله وتعبه وسعادته وحزنه، ليس هناك ترفع ولا كبر ولا ظلم ولا كراهية، أما الآن في بعض الدول الإسلامية يكون هناك ألف حاجز بينك وبين الزعيم لابد أن تجتازها، حتى تستطيع أن تصل إليه، بل من المستحيل غالباً أن تتجاوز التسعمائة حاجز الأخيرة.
فهذه مشكلة لو حصلت في أمة ليس من الممكن أن تنتصر أبداً، ولتراجعوا معي سيرة زعماء الأمة الذين حصل في زمنهم نصر وتمكين وعزة، فإنك ستجد اختلاطاً كاملاً من القائد مع الشعب، كـ صلاح الدين الأيوبي، وقطز، وعبد الرحمن الناصر، وموسى بن نصير، ويوسف بن تاشفين وغيرهم كثير.
فلتراجعوا تاريخ الأمة، فإنكم ستجدون هذه الأشياء واضحة مثل الشمس، وعلى النقيض تماماً كل لحظات الانهيار والتردي في حالة الأمة تكون مصحوبة بعزلة الحاكم عن الشعب.
روى الترمذي وأبو داود عن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ولاه الله عز وجل شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره).
تفوق عناصر الجيش في المواجهات الفردية يرفع من معنويات الجيش
صار الجيشان الآن أمام بعضهما، وبدأت ساعة الصفر، وقام رجل من المشركين اسمه الأسود بن عبد الأسد المخزومي وأقسم أن يشرب من حوض المسلمين أو ليموتن دونه، فانظر إلى هذا الضلال! كفاح وتضحية واستعداد للموت من أجل قضية فاسدة: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8]، وقام الرجل ليبر بقسمه، لكن قابله الأسد حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وضربه ضربة قطعت ساقه، ومع ذلك كان الرجل مصراً على الوفاء بقسمه، فظل يزحف على الأرض لكي يصل إلى ماء بدر، لكن حمزة أدركه وقتله قبل أن يصل إلى مراده.
فكانت هذه نقطة بداية مهمة للمعركة، وكانت نقطة لصالح المسلمين، حدث هذا في أول دقيقة من دقائق المعركة، فكان توفيقاً كبيراً من رب العالمين، فقد رفع معنويات المسلمين وأحبط معنويات الكافرين، وحرك الغيظ في قلوب زعماء مكة، ونهض ثلاثة منهم يطلبون المبارزة من المسلمين، فقد كان من عادة الناس في الحروب القديمة أن يتبارز أفراد قلائل في بداية المعركة كنوع من الاستعراض، ثم يبدأ بعد ذلك الهجوم الشامل في الجيش كله؛ لذلك قام عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة وهم من أشداء فرسان مكة.
والعجيب الذي يلفت النظر هو قيام عتبة بن ربيعة، فقد كان عتبة بن ربيعة من الحكماء المعدودين في قريش، ومن أصحاب الرأي السديد في أمور كثيرة، وكان يدعو قريشاً أن تخلي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين العرب ولا يقاتلوه، وكان يقول: إن هذا الرجل ليس بشاعر ولا بكاهن ولا بساحر ولا بكاذب، وكان يرفض فكرة القتال في بدر بعد إفلات القافلة، وكان إلى آخر لحظة يجادل المشركين في قضية القتال، حتى نظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من بعيد قبل بدء المعركة، وهو يركب جملاً أحمر، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا)، لكن القوم لم يطيعوه وأصروا على القتال، وللأسف الشديد دخل عتبة معهم المعركة ولم يرجع كـ الأخنس بن شريق، والأعجب من ذلك أنه خرج مع من خرج للمبارزة، فقد كان عتبة مصاباً بمرض خطير مرض الإمعية، فهو حكيم في الرأي، لكن يسير مع الناس حيث ساروا، إذا أحسن الناس أحسن، وإذا أساءوا أساء، كان ضعيف الشخصية مهزوزاً متردداً، وهذا الذي أرداه فأصبح من الخاسرين، وأمثال هؤلاء نراهم كثيراً في الواقع، فمن الناس من يكون ذا رأي حكيم وسديد، ويكون عندنا آمال عريضة في أنه يغير من حوله، لكنه يمشي مع التيار، وتكون الكارثة.
خرج الفرسان الثلاثة يطلبون القتال، فخرج لهم ثلاثة من شباب الأنصار، لكن الفرسان المشركون قالوا: لا حاجة لنا بكم إنما نريد أبناء عمنا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: قم يا عبيدة بن الحارث وهو ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم- ثم قال: قم يا حمزة! وهو عم الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قال: قم يا علي بن أبي طالب وهو ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام، فكلهم من الأقربين، مع أن القتال خطير، لكن القائد وعائلته يعيشون حياة الناس تماماً، ويتعرضون لكل مشاكل الأمة، فيكونون في أوائل المضحين والمجاهدين، وبدأت المبارزة، واختلفت الروايات فيمن بارز من؟ لكن رواية أحمد وأبي داود تقول: إن علي بن أبي طالب بارز شيبة، وإن حمزة بارز عتبة، وإن عبيدة بن الحارث بارز الوليد بن عتبة.
والتقت السيوف واحتدم الصراع، وبدأت الدماء تسيل، ثم بدأت الجثث تتساقط في دقائق معدودة، وانتهت الجولة الأولى من الصراع لصالح المسلمين مرة أخرى، علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب قتلا شيبة وعتبة، سبحان الله! سقط عتبة في أرض بدر ولم تنفعه حكمته، وأصيب عبيدة والوليد بإصابات بالغة، فأسرع علي وحمزة إلى الوليد بن عتبة وقتلاه، وحملا عبيدة إلى معسكر المسلمين، فكان سقوط أربعة قتلى للمشركين في أول المعركة.
اشتعلت أرض بدر بالقتال، هجوم شامل كاسح في كل المواقع، صيحات المسلمين ترتفع بشعارهم في ذلك اليوم: أحد أحد، أحد أحد، صليل السيوف في كل مكان، الغبار غطى كل شيء، هذا الصدام المروع حدث لأول مرة بين المسلمين والكافرين، معركة بين الحق والباطل.
وضوح الهدف وسمو الغاية عند المسلمين من عوامل النصر الرئيسية
مع كل الحماس الذي كان المسلمون فيه، إلا أنهم لا يزالون محتاجين إلى تشجيع وتحميس أكثر؛ لأن الموقف صعب، فجاء دور التحميس والتشجيع، ولن يكسل المؤمن حين يسمع ذلك، جاء وقت التذكير بالجنة، فقد رفع الرسول عليه الصلاة والسلام صوته ليسمع الجميع قال: (والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة).
إن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم عجيب جداً لا يمكن أبداً أن يفهمه علماني ولا كافر أو فاسق؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحفز الناس كالمعتاد في كل الحروب على الدفاع عن حياتهم، بل يحفزهم على فقد حياتهم، يقول: (لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً) إلى آخر الحديث، والذي يرى نفسه أنه يعيش للدنيا لو قتل يكون قد فقد كل شيء، لكن الذي يفهم ما معنى الجنة سيكون للقتل عنده معنى آخر، فالجنة حلم كبير عند المسلمين، وهي ليست في الدنيا، إنما تأتي الجنة بعد الموت، فالموت هو الحاجز الوحيد بين الشهيد الذي يقتل في أرض الجهاد وبين الجنة، كما أن الشهيد يدخل الجنة بغير حساب.
إذاً: لو جاء الموت لأصبحنا من أهل الجنة، فليت الموت يأتينا، وهكذا يصبح الموت المكروه عند عامة البشر أمنية، بل أسمى الأماني لمن فقه حقيقة الجنة.
(إن في الجنة مائة درجة أعدها الله عز وجل للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض) والحديث في البخاري.
وأيضاً في البخاري: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت الدنيا وما فيها، ولملأت ما بينهما ريحاً -أي: ما بين السماء والأرض، أو ما بين المشرق والمغرب- ولنصيفها -أي: الخمار الذي على رأسها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها)، سبحان الله! فمن كان عنده يقين في ذلك يشتاق إليه؛ لذلك فإن الجيش المنصور جيش يحب الموت، يقول خالد بن الوليد رضي الله عنه: جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة.
وقد تحدث الرسول عليه الصلاة والسلام يتكلم عن الأمة المهزومة التي ليس لها وزن في العالم، فأخبر أن أهم صفة فيها صفة الوهن: (قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟! قال: حب الدنيا وكراهية الموت)، أي: كراهية الموت في سبيل الله.
فلو حصل في الأمة كراهية الموت، فإنها ستقع، وعلى العكس لو أحبت الأمة الموت في سبيل الله وهبت النصر ووهبت الجنة.
يذكر أن إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل الهالك قال في تعليق على اتهام اليهود له بعدم القدرة على السيطرة على حماس والجهاد، قال: أتحدى أي جهاز مخابرات في العالم أن يقاوم أناساً يريدون أن يموتوا! فالمؤمن القوي يحب أن يموت، ويخاف ألا يموت، ويخاف أن ينكشف أمره فلا يموت، فكيف يمكن أن تحاربه؟! فيا ترى! هل أحد منكم يريد أن يموت أو يبحث عن الموت، أو يكون مستعداً للموت؟! هل أحد منكم كتب وصيته؛ لأنه يحلم بيوم يموت فيه في سبيل الله؟ إن لم تكن هذه القضية في بالك ولا تبحث عنها فأنت لا تعرف الجنة.
إن طلب الموت في سبيل الله ليس فيه كآبة ولا حزن، إنما الكآبة أن تقف يوم القيامة تنتظر الحساب سنوات وأنت ترى حولك الشهداء يدخلون الجنة من غير حساب، فلا عذر لك يا أخي المسلم أن تقول: أين الجهاد؟ وأين القتال؟ فالمسألة مسألة صدق في النية تريد أو لا تريد، فإن كنت تريد فستأخذ أجر الشهادة وتدخل الجنة وإن مت في بيتك وسط أهلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) وإن كنت لا تريد فلن تأخذ أجر الشهادة حتى لو فتح لك ألف باب للجهاد، فالمسألة مسألة صدق، وانظر إلى الجنة كيف أثرت في الصحابة يوم بدر، فهذا عمير بن الحمام رضي الله عنه سمع الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض).
فماذا أعددنا لهذه الجنة؟! {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].
لما سمع عمير بن الحمام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك قال متعجباً: عرضها السماوات والأرض؟! فإن الواحد منا يكافح سنين حتى يكون عنده بيت أو سيارة أو بعض الأموال أو بعض السلطات، وكل هذا لا يمثل أي وزن في الأرض، فما بالك بالجنة التي عرضها السماوات والأرض؟ فإنه لا يستبعد أن يكون ملك أحدنا في الجنة قدر مجموعة شمسية أو أكثر؛ فـ عمير يتعجب من جنة عرضها السماوات والأرض، فقال صلى الله عليه وسلم في منتهى الإيجاز: (نعم)، وتلقى عمير بن الحمام رضي الله عنه الكلام بمنتهى بيقين لا جدال فيه ولا محاورة، فقال عمير: (بخ بخ -كلمة تقال للتعجب- فقال صلى الله عليه وسلم: ما يحملك
النفوس العظيمة لا يعوقها عن هدفها عائق
كان عمير بن أبي وقاص رضي الله عنه شاباً لا يتجاوز عمره (16) عاماً، فهو في تعريف منظمة الصحة العالمية طفل؛ لأن الأطفال في تعريفهم تحت (18) سنة، وفي تعريف القيم والأخلاق والمبادئ والعقائد يعد من سادة الرجال رضي الله عنهم، تقدم رضي الله عنه ليجاهد مع المجاهدين في بدر، لكن خاف أن يرده الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يزال صغيراً، فأخذ يتوارى بين القوم حتى لا يراه الرسول عليه الصلاة والسلام فيرده، فرآه أخوه المجاهد العظيم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
قال له: ما يحملك على هذا؟ قال: أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني ويردني، وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة.
سبحان الله! كانت لديه أمنية حلوة أن يموت وعمره لا يتجاوز (16) سنة، رآه الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يختبئ منه، فأشفق عليه من القتال ورده فبكى عمير؛ لأنه ستضيع عليه فرصة الموت في سبيل الله، فرق له صلى الله عليه وسلم لما رآه يبكي وسمح له بالجهاد، فجاهد واشتاق بصدق للشهادة، فاستشهد ودخل الجنة.
هكذا فهم عمير بن أبي وقاص الجنة وهو لم يكلف إلا منذ سنتين أو ثلاث سنوات، فهم ما يعجز عن فهمه الأشياخ والحكماء والعباقرة، فيا له من منهج تربوي إصلاحي واقعي لا يرقى إليه أي منهج من المناهج! وهذا عوف بن الحارث رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ما يضحك الرب من عبده؟ قال: غمسه يده في العدو حاسراً) يعني: من غير درع، وهذا فيه دلالة على قوة البأس وعدم الخوف من الموت، ومعلوم أن هذا التصرف يلقي الرهبة في قلوب العدو، هنا ألقى عوف درعه وقاتل حاسراً حتى استشهد رضي الله عنه ودخل الجنة.
إن موضوع الجنة لم يكن غائباً أبداً عن أذهان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ لذلك انتصروا.
إن الجيش الإسلامي قبل أن يأتي إلى بدر كان يبحث عن الجنة، وفي أرض بدر كذلك كان يبحث عن الجنة، وبعد بدر كذلك يسأل عن الجنة.
فقبل الخروج إلى بدر أراد سعد بن خيثمة وأبوه خيثمة رضي الله عنهما الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر، لكن كان تحت رعايتهما بنات كثيرات، فلابد أن يخرج واحد منهما، ويقعد الآخر لرعاية البنات، لكن الاثنين يريدان أن يخرجا للقتال، يطلب الاثنان الجنة بصدق، فلم يتنازل أحد منهما، فقررا أن يعملا قرعة، فخرج سهم سعد بن خيثمة، فتحسر أبوه حسرة حقيقية، فقال لابنه في توسل: يا بني! آثرني اليوم -أي: اتركني أخرج- فضلني على نفسك، لكن سعداً رضي الله عنه وأرضاه رد بجواب يفسر سبباً من أسباب الجيش المنصور، قال في أدب: يا أبي! لو كان غير الجنة لفعلت، لا أستطيع.
وخرج سعد بن خيثمة بهذه الروح الصادقة وقاتل رضي الله عنه حتى استشهد، ودخل الجنة التي يريد.
واللطيف في الأمر أن أباه خيثمة خرج في أحد بعد بدر بسنة، واستشهد أيضاً! وهذه أم حارثة بن سراقة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تسأله عن ابنها حارثة بن سراقة استشهد في بدر وهو شاب صغير، مات مقتولاً، وفي مثل هذا الموقف تطيش عقول وتضطرب أفئدة ويتزلزل رجال ونساء، لكن أم حارثة أتت تسأل عن شيء محدد، قالت: (يا رسول الله! قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع؟ فقال لها الرسول عليه الصلاة والسلام: يا أم حارثة! إنها جنان، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)، الله أكبر! حارثة بن سراقة رضي الله عنه وأرضاه في الفردوس الأعلى؛ لأنه مات شهيداً في سبيل الله، والشهيد كما ذكر صلى الله عليه وسلم من يموت مقبلاً غير مدبر محتسباً صابراً، هذه صفات الشهداء الذين في الجنة، وهذه كلها كانت موجودة في حارثة، لذلك بلغ الفردوس الأعلى، واستراحت أم حارثة وتقبلت أمر موت ابنها الشاب بسهولة شديدة، وصبر واحتساب، بل وبسعادة رضي الله عنها؛ لأنه من يحب أحداً يحب له الخير أيضاً، وليس هناك خير أفضل من الجنة.
بعض صفات أهل بدر وشدة حرصهم على الجنة
إن صفات أهل بدر الجميلة كثيرة، من أهم صفاتهم: أنهم جيش مؤمن بالله، ومؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومؤمن بالجنة، ومن غير الإيمان لا يمكن أن يكون هناك نصر، وهذا القول لا نقوله كنوع من الترف الفكري، أو القصص التاريخي الذي ليس له واقع في حياة الناس، إنما نقوله ليكون منهجاً في حياتنا، ومنهجاً في تربية الأطفال والرجال والنساء، ومن غير هذا المنهج لا يوجد فرصة للإصلاح، دعوكم من مناهج الشرق والغرب، ومناهج الإصلاح الوهمية والمبنية على طلب الدنيا وبأي وسيلة، إن هذه المناهج لا تورث إلا كآبة وتعاسة في الدنيا، وشقاء وذلاً في الآخرة.
وإياكم أن تظنوا أن الغرب والشرق من أصحاب المال والسلطة والجاه والملك يعيشون في سعادة، أبداً، من يفقد منهم ماله ينتحر، ومن يموت له ابن أو حبيب يكتئب وينعزل عن المجتمع، ومن يتعرض لمصيبة تكون هذه نهاية الدنيا عنده، ومن وجد نفسه فقيراً أو من عائلة صغيرة، أو يعيش في وضع اجتماعي صغير يعيش معقداً حاقداً على المجتمع، حاسداً لكل الأغنياء، وقد يكون سارقاً وقاتلاً ومرتشياً وفاسداً، ويعيش حياة الإجرام، ولا يوجد عنده بديل.
روى الحاكم -وقال: صحيح على شرط مسلم - عن أنس رضي الله عنه وأرضاه: (أن رجلاً أسود أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رجل أسود - أي: رجل فاقد لكل مقومات الوجاهة في الدنيا ومتاعها - منتن الريح قبيح الوجه لا مال لي، فإن أنا قاتلت هؤلاء حتى أقتل فأين أنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: في الجنة، فقاتل الرجل حتى قتل، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم بعدما استشهد، ووقف بجانبه، يعلم الصحابة ويعلمنا - ويقول: قد بيض الله وجهك - ألم يكن يقول: إني رجل أسود؟! - وطيب ريحك وأكثر مالك)، ومعلوم أن أقل أهل الجنة ملكاً له عشرة أمثال الدنيا، فالجنة فيها سلوى وتعويض لكل مؤمن فقد أي شيء، وفيها الجزاء لكل من تعب أو سهر أو بذل أي مجهود للإصلاح.
الجنة صبّرت أم حارثة، وشجعت عمير بن الحمام، وعمير بن أبي وقاص وسعد بن خيثمة، وحارثة بن سراقة وغيرهم وغيرهم.
الجنة جعلت الحباب بن المنذر يقول رأيه؛ لكي يفيد المسلمين ويدخل الجنة بعد ذلك.
الجنة جعلت المكروه محبوباً وجعلت الموت مطلوباً، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ألا مشمر للجنة؟ ألا مشمر للجنة؟ -أي: هل هناك من يريد الجنة- فإن الجنة لا خطر لها -يعني: لا مثيل لها- هي -ورب الكعبة- نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة في مقام أبداً، في حبرة ونضرة، في دور عالية سليمة بهية، فلما سمع الصحابة ذلك قالوا: يا رسول الله! نحن المشمرون لها؟ قال: قولوا: إن شاء الله).
وهكذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهاد وحض عليه، وأعطاهم شيئاً عملياً يدخلون به الجنة.
والحديث في صحيح ابن حبان وسنن ابن ماجه.
فعندما تملأ الجنة حياتنا بهذه الصورة، وتصبح هدفاً واضحاً في تفكيرنا، وحين نأخذ قراراً أو نعمل عملاً أو نقول كلمة أو نضحك ضحكة أو نسافر أو نقعد أو نحب أو نكره، عندما تصبح الجنة محركاً لكل حياتنا، فإننا سنرى نصراً مثل نصر بدر، وتمكيناً وعزة وسيادة مثل الذي حصل في بدر تماماً بتمام.
ونسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نصر بدر
من أسباب نصر الله لعباده المؤمنين أن يكونوا متحابين متآلفين متماسكين، مهما اختلفت أجناسهم، إذ إن رابطة الدين أقوى من رابطة النسب، فتحقيق هذا الأمر مع غيره من المطلوبات الشرعية يحقق الصدق مع الله الذي نصر به المسلمون في غزوة بدر وغيرها من الغزوات، وخذل به أعداؤهم، وأنزل الله لتأييدهم جنوداً من عنده سبحانه.

تابع صفات الجيش المنصور وملامحه
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الثامن من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.
في الدرسين الماضيين تكلمنا على أحداث كثيرة من أحداث غزوة بدر، وخرجنا من الدرسين بعدة صفات للجيش المنصور، أهمها: أنه جيش مؤمن بالله عز وجل، مؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، مؤمن باليوم الآخر، يعمل بصدق للوصول إلى الجنة، يتعاون فيه القائد مع الجنود لخدمة الأمة الإسلامية، لا ينعزل فيه القائد عن جيشه ولا الحاكم عن المحكومين، تترسخ فيه الشورى كمبدأ أصيل من مبادئ الحكم والوصول إلى قرار، يعد العدة المادية من سلاح وخطة وتدريب بقدر ما يستطيع، جيش حاسم غير متردد، نشيط لا فتور فيه، متفائل لا إحباط فيه، جريء شجاع لا يهاب الموت بل يطلبه؛ هذه بعض صفات الجيش المنصور.
الوحدة والتماسك بين المؤمنين على أساس الدين لا النسب
ما زالت هناك صفات مهمة، وكلها واضحة في أهل بدر: الوحدة والألفة والتماسك والترابط بين أفراد الجيش الواحد، وبين أفراد الأمة الواحدة، فإنه لا يوجد نصر من غير وحدة.
هذه قاعدة، لكن الوحدة في الجيش المنصور لا بد أن تكون وحدة عقائدية، بمعنى: أن الرابط الرئيسي بين المسلمين هو الإسلام، لا قبلية ولا لون ولا عنصر ولا وضع اجتماعي ولا أي شيء من متعلقات الدنيا، فالوحدة في الله والأخوة في الله هما اللتان تنفعان فعلاً.
انظر إلى أهل بدر! جيش قوي متماسك، مع أن تركيبته عجيبة خاصة في هذا التوقيت، قبل الإسلام كان الرباط الأساسي في الجزيرة -ولعله الوحيد- هو رباط القبلية، حتى قالوا كلمتهم الفاسدة: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، ليس من المهم في أيام الجاهلية أين الحق أو العدل، لكن المهم أن هذا من قبيلتي سواء كان ظالماً أو مظلوماً لا فرق، فجاء الإسلام ليغير المقاييس الباطلة التي كانت الجاهلية تحكم بها، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال الكلمة نفسها لكن بتعديل كبير جداً في المفهوم والتصور.
قال لأصحابه: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماًَ)، وهذا الحديث في البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه، فتعجب الصحابة، وقالوا: (يا رسول الله! ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال صلى الله عليه وسلم: تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصره).
وهكذا فإن أخي هو المشترك معي في العقيدة، ليس مهماً ما هي قبيلته أو بلده، أنصره بالعدل والحق فقط، ولو ظَلَم أشترك مع غيري كي أرده عن ظلمه، وأكبر ظلم في الدنيا هو الإشراك بالله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]؛ لذلك رأينا التلاحم والتناصر والوحدة بين الطوائف المختلفة من أهل بدر، هذه الطوائف لم يجمعها إلا شيء واحد فقط هو الإسلام، فقد حاولوا أن يردوا الظلم الذي ارتكبه غيرهم، حتى لو كان الظالمون الآباء والأبناء والأقارب والعشيرة.
إن جيش المسلمين في بدر كان فيه المهاجر الذي من قريش، والأنصاري الذي من الأوس والخزرج، وفرع قريش بعيد جداً عن فرع الأوس والخزرج، فقريش من العدنانيين، والأوس والخزرج من القحطانيين، فرعان مختلفان تماماً، ومع ذلك لأول مرة في تاريخ العرب يكونون جيشاً واحداً، والذي جمعهم هو الإسلام؛ هذه نقطة من أهم نقاط بناء الأمة الإسلامية.
إن هذا الجيش لم يكن من كل القبائل فقط، بل كان فيه العربي وغير العربي، فـ بلال كان في هذا الجيش مع أنه حبشي، ولم يشعر مطلقاً بالغربة في هذا الجيش الذي يغلب عليه العرب، ولم يشعر العرب في داخل الجيش بأن هناك عنصراً غريباً في داخل الجيش من الحبشة، بل التعاون والتلاحم بينهم كان على أكبر مستوى.
تعالوا لنرى قصة قتل أمية بن خلف.
كان أمية بن خلف خائفاً من أن يشترك في غزوة بدر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن المسلمين سيقتلونه، وكان أمية بن خلف صديقاً لـ عبد الرحمن بن عوف أيام الجاهلية، كان عبد الرحمن بن عوف يمشي في أرض بدر قبل انتهاء المعركة بقليل، وقد وضح أن النصر حليف المسلمين، حاملاً في يديه مجموعة أدراع استلبها من القتلى المشركين الذين قتلهم، والسلب: هو ما يكون على القتيل المشرك، وهو من حق المسلم الذي قتله، فرأى أمية وابنه واقفين في منتهى الرعب، فلما رأى عبد الرحمن صرخ: هل لك فيَّ تأخذني أنا؟ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك، ما رأيتك اليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ فرمى عبد الرحمن بن عوف بالأدراع وأخذ أمية بن خلف وابنه، واسم ولده علي بن أمية.
أخذ عبد الرحمن يمشي بهما في أرض بدر، فمر عليهم بلال بن رباح رضي الله عنه فلما رأى بلال أمية بن خلف تذكر الذكريات المؤلمة فإن أمية هو الذي كان يعذب بلالاً في مكة، فصرخ بلال: رأس الكفر أمية بن خلف! لا نجوت إن نجا.
لكن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخذ الموضوع ببساطة، وقال لـ بلال: أي بلال! أسيري، فكان بلال لا يقول إلا كلمة واحدة: لا نجوت إن نجا، فرأى عبد الرحمن بن عوف أن بلالاً يأخذ الموضوع بجد ولا يسمعه، فقال له: أتسمع يا بلال؟! هذا أسيري، فقال بلال: لا نجوت إن نجا، وكان عبد الرحمن يمنع بلالاً من الوصول إلى أمية، فنادى بلال إخوانه من الأوس والخزرج صارخاً: يا أنصار الله! رأس الكفر أمية بن خلف.
كفاءة الجيش المؤمن وأمانته
وأيضاً من صفات هذا الجيش: أنه كان كفؤاً وبقدر المسئولية فعلاً، فقد تكون القضية سليمة، لكن المحامي فاشل؛ ولذلك نخسر القضية، وربما تكون الغاية نبيلة والمدافع عنها ضعيفاً، فلا نصل إلى الغاية، فالمسألة مسألة أمانة، جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فسأله عن الساعة فقال له: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، وهذه مشكلة ضخمة تواجهها الأمة الإسلامية الآن، فالأمر في هذا العصر لا يوسد إلى أهله، بل يوسد إلى من عنده واسطة أو قريب أو صاحب أو ابن فلان أو فلان، فالأمر يجب أن يوسد إلى من يستطيع فعلاً أن يؤديه على أفضل وجه، وهذا لا بد أن يجمع بين الصفتين، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، والقوي: الكفء في مجال العمل فإن كان الفرد في الجيش لابد أن يكون عسكرياً جيداً، وإن كان في الزراعة فلا بد أن يكون فاهماً في أمور الزراعة، كذلك في التجارة وفي الصناعة وفي التعليم وفي الإدارة، وفي أي مجال يكون محترفاً في مجاله فعلاً، بل يكون مبتكراً ومخترعاً ومتحمساً للإبداع.
والأمين: هو الذي يعلم أن الله عز وجل يراقبه؛ فيرعى الأمانة، ولا يغش ولا يدلس ولا يضيع وقتاً ولا يبخل برأي ولا يدخر معونة، يكون أميناً كما وصفه الله عز وجل.
وفي موقعة بدر وسد الأمر إلى أهله، والكفاءة رأيناها في كل المقاتلين، احترافية في الأداء، مهارة في المناورة، قوة في النزال، دقة رأي وبعد نظرة، عسكريون على أعلى مستوى وفي منتهى الأمانة، يعرفون أن الله ينظر إليهم في كل لحظة؛ لأن إيمانهم عالٍ جداً، وأخلاقهم لا تسمح بأي تفريط؛ لهذا السبب رفض الرسول عليه الصلاة والسلام في بدر أن يستعين بمشرك.
ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج إلى بدر، ويذكر أن هذا الرجل له جرأة ونجدة، ففرح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع؛ فلن أستعين بمشرك)، سبحان الله! مع قوة الرجل وبأسه ونجدته، ومع احتياج المسلمين إليه، إلا أنه قد يفتقر إلى الأمانة، فهو لا يؤمن بأن الله عز وجل يراقبه فقد يخدع المسلمين، فرفض صلى الله عليه وسلم الاستعانة بأي مشرك في غزوة بدر؛ فهذه قاعدة: ألا يستعين المسلمون بالمشركين، لها بعض الاستثناءات، وهي موجودة في كتب الفقه، لكن الأصل ألا يستعين المسلمون بمشرك ولو كان كفؤاً.
وأكمل الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق إلى بدر، وجاء إليه نفس الرجل بعد قليل، وقال له كما قال أول مرة؛ فقال له صلى الله عليه وسلم: (تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع؛ فلن أستعين بمشرك)، ثم جاء له مرة ثالثة فقال له صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة، فقال له الرجل: (نعم.
أؤمن بالله ورسوله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: فانطلق)، فهذا معنى في غاية الأهمية: توسيد الأمر إلى أهله، وأهله هم الأكفاء الأمناء، وقد يكون الرجل أميناً وتقياً وورعاً، لكنه ليس كفئاً؛ هذا أيضاً لا ينفع.
رد الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر بعض المسلمين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رأى أن قدرتهم القتالية ضعيفة، مع علمه التام بأمانتهم، ورغبتهم الصادقة في القتال، ورد مجموعة من صغار السن؛ لضعف بنيتهم، وضآلة أجسامهم، كـ عبد الله بن عمر والبراء بن عازب رضي الله عنهم، وغيرهما من الصغار، وفي نفس الوقت قبل بعض صغار السن الآخرين؛ لكفاءتهم العسكرية والجسدية، كـ عمير بن أبي وقاص، ومعاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء، كانوا صغاراً في السن، لكن عندهم قدرة قتالية، فقبلهم صلى الله عليه وسلم.
فلابد من كفاءة وأمانة، ومن دون هاتين الاثنتين لا يوجد نصر.
الاعتماد على الشباب والاهتمام بهم
موضوع صغار السن هذا سيأخذنا إلى صفة أخرى من صفات الجيش المنصور.
من الممكن أن الصغير والكبير ينصران الإسلام، لكن التاريخ يقول: إن معظم محطات التغيير الرئيسية كانت معتمدة اعتماداً شبه كلي على الشباب، وراجعوا محاضرات الفترة المكية.
عملت بحثاً في أعمار المشاركين في غزوة بدر، وهناك كثير لا نعرف أعمارهم، لكن الذي أحصيته من هؤلاء يكفي أن يكون عينة صادقة تعبر عن حال الجيش، فإن متوسط العمر في الجيش كان اثنين وثلاثين سنة، وهناك أناس أكبر وأناس أصغر، فالمواقع القيادية في بدر كلها كانت للشباب، كان حامل راية المهاجرين علي بن أبي طالب، وعمره خمسة وعشرون سنة، وحامل راية الأنصار سعد بن معاذ، وعمره اثنان وثلاثون سنة، وحامل الراية العامة للجيش كله مصعب بن عمير، وعمره سبعة وثلاثون أو ثمان وثلاثون سنة، كما أن شهداء بدر متوسط عمرهم تحت الثلاثين سنة، فالشباب يا إخواني! طاقة هائلة، والتركيز عليهم في موقع الذب وفي غيرها من المواقع الفاصلة كان في منتهى الوضوح، والنصر جاء على أيديهم في بدر وفي غيرها، وليس معنى هذا أننا لسنا محتاجين لحكمة الشيوخ، لا، بل نحن محتاجون لكل الطاقات، الصغير والكبير، الرجل والمرأة من المؤسف جداً أن يكون شباب الأمة الذين يجيء معظم النصر على أيديهم يكون مشغولاً ببعض الأمور التافهة التي لا تصلح لطفل فضلاً عن شاب.
وراجعوا محاضرة: كلمة إلى شباب الأمة.
ملخص صفات الجيش المنصور
إذاً: نحن في درس هذا اليوم وفي الدرسين الذين مضيا ذكرنا عدة صفات للجيش المنصور، تعالوا نجمعها وتعرف عليها، فإنها إذا تجمعت في أي جيش لانتصر؛ لأن هذه سنن، وسنن الله سبحانه وتعالى لا تبديل لها.
الصفة الأولى: الإيمان بالله عز وجل، وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ هذه أهم صفة، وأي منهج لا يقوم على الكتاب والسنة؛ لن يكون من ورائه إلا كل خزي وذل وهزيمة.
الصفة الثانية: الإيمان باليوم الآخر، وطلب الجنة، وحب الموت في سبيل الله، والزهد في الدنيا.
الصفة الثالثة: الوحدة بين المسلمين، والصف المتآلف المتحاب، ولا بد أن يكون هذا الحب لا يقوم على روابط قبلية أو عرقية، ولكن في الأساس يقوم على رباط العقيدة والدين.
الصفة الرابعة: الإعداد الجيد من خطة ومال وسلاح وجهد وتخصص وعلم.
الصفة الخامسة: الشورى، والشورى لا تكون إلا فيما لا نص فيه، ولا يجوز للمسلمين أن يجتمعوا على مخالفة الشرع، بل يتشاورون فيما لا نص فيه، وبدون شورى فإن النصر بعيد، بل مستحيل.
الصفة السادسة: الحسم وعدم التردد: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]، والتسويف وتأجيل الأعمال علامة على التردد والضعف، وطبعاً هذا يؤخر النصر، بل أحياناً يمنعه.
الصفة السابعة: الاعتماد على الشباب، والاهتمام بهم، والارتقاء بأفكارهم، والثقة في قدراتهم وإمكانياتهم.
الصفة الثامنة: توسيد الأمر إلى أهله، وأهله هم الأكفاء الأمناء.
الصفة التاسعة: مشاركة القائد لشعبه وعدم الترفع عليهم، والاختلاط بهم، والتضحية معهم.
أما الصفة العاشرة والأخيرة: فهي روح الأمل والتفاؤل واليقين في نصر الله عز وجل لهذه الأمة؛ هذه كانت الصفة العاشرة من صفات الجيش المنصور، فتلك عشر كاملة.
وهذه الصفات العشر تحتاج لدروس ومحاضرات ودورات ومناهج، وتحتاج لوقت وجهد كي تزرع وتكون منهج حياتنا، وإن صفة واحدة من هذه الصفات إذا فقدت؛ قد يفقد معها النصر تماماً، حتى لو تحققت التسع الصفات الباقية، فمن غير إيمان لا يوجد نصر، ومن غير وحدة لا يوجد نصر، ومن غير أمانة لا يوجد نصر وهكذا، وسيتضح هذا جلياً في أحد.
  الثبات يتحقق بتحقيق صفات الجيش المنصور كاملة
إذا حقق المسلمون هذه الصفات العشر؛ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة جداً، وهي نعمة الثبات.
فلا أحد يستطيع أن يضمن أنه سيثبت، ولكي تكون أهلاً للثبات لابد أن تستوفي الصفات العشر للجيش المنصور مثلما ذكرنا، فإنه لا نصر من غير ثبات؛ ولهذا تجد أن الله يذكر في سورة الأنفال الثبات كثيراً، سواء بنفس اللفظ أو بمعناه، تجد مثلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15]، كذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45]، وعند الحديث عن المطر قال: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11]، وعند الحديث عن الملائكة قال: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال:12]، فالثبات هبة من الله عز وجل، لا يلقاها إلا من قدم الصفات العشر مكتملة، فإذا ثبت المسلمون في أرض المعركة؛ أنزل الله عليهم سبحانه وتعالى النصر من عنده.الجنود التي أيد الله بها المؤمنين يوم بدر لنصرهم
نزول النصر يحتاج منا إلى وقفة مهمة وطويلة، فالنصر يأتي من حيث لا يتوقع المسلمون، بل أحياناً يأتي من حيث يكره المسلمون، أي: يأتي النصر بطريقة يعترف الجميع أنها ليست من طرق البشر، ولا يستطيعونها؛ وما ذلك إلا لكي ينسب المسلمون النصر إلى الله عز وجل، ولا ينسبوه إلى أنفسهم أبداً.
فبعض المسلمين كرهوا هذا اللقاء مع الجيش المكي في بدر: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5]، وكانوا يتوقعون في هذه الموقعة موتاً محققاً للمسلمين: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:6]، لكن سبحان الله! أتى النصر من حيث لا يتوقع المسلمون، بل ومن حيث يكرهون.
وإذا أتى النصر أتى بطريقة لا يقدر عليها البشر عموماً؛ حتى لا يدعي أحد أنه بفضل قوته وعدده وخطته انتصر، كما ذكرنا قبل ذلك.
وفلسفة النصر في الإسلام تؤكد أن النصر من عند الله عز وجل، لكنه لا ينزل عشوائياً، بل ينزل على الذين ثبتوا في أرض القتال.
تعالوا نرى كيف نزل النصر في يوم بدر! الكيفية التي تم بها النصر يا إخواني! تتلخص في قوله تعالى في سورة الأنفال: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]، فهذا أسلوب قصر نفى تماماً أن يأتي النصر إلا من طريق واحد: من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
تعالوا نرى جنود الرحمن في يوم الفرقان تعالوا نرى الجنود التي حققت النصر العظيم.
الملائكة
سنعد عشرة من جنود الرحمن سبحانه وتعالى في يوم الفرقان، أول جنوده سبحانه الملائكة.
مَن مِن قادة الأرض يستطيع أن يحسب في حساباته عدد الملائكة المقاتلين في الجيش؟ لا المسلمون ولا الكفار يستطيعون أن يحسبوا هذه الحسبة، وهذا شيء معترف به من الجميع، فهو بيد الله عز وجل وحده، فإن جيوش الملائكة قاتلت في بدر، ونزلت كذلك في الأحزاب، والله سبحانه وتعالى قال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9]، ونزلت كذلك في حنين قال: {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:26]، ولا يستبعد أن تنزل في معركة قديمة أو حديثة أو مستقبلية، فهم جنود من جنود الرحمن سبحانه وتعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
والملائكة خلق عجيب، وقوة خارقة غير متخيلة، فقد رفع جبريل عليه السلام قرية لوط عليه السلام إلى السماء على طرف جناحه، حتى سمع أهل السماء أصوات الناس ونباح الكلاب، ثم قلبها، فـ {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود:82]، سبحان الله! ملك واحد يرفع قرية كاملة إلى السماء، وملك يريد أن يطبق على الأخشبين -جبلين حوالي مكة-.
هؤلاء الملائكة شاركوا في غزوة بدر، ليس ملكاً ولا اثنين، بل جيشاً من الملائكة، يقول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، مردفين: أي يتبع بعضهم بعضاً، ومعنى ردف لكم: أي ردء لكم ومعين لكم، فهذه ألف من الملائكة في المرحلة الأولى من مراحل القتال، وبعد ذلك تطور الأمر، انظروا إلى قوله تعالى في موقعة بدر: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:123 - 125]، مسومين: أي معلمين بعلامات.
قال الربيع بن أنس رحمه الله -من التابعين- مفسراً هذه الآيات: أمد الله عز وجل المسلمين بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف.
وقد يقول قائل: كان يكفي ملك واحد، فلماذا هذه الأعداد المتزايدة؟

الجواب
الله سبحانه وتعالى عرفنا الحكمة من وراء هذه الأعداد، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:10]، تخيل أن الرسول عليه الصلاة والسلام يبشر المسلمين بأعداد من الملائكة، بل تخيل المسلمين عند سماعهم لهذه الآيات، فكلمة واحد غير كلمة عشرة، وغير كلمة ألف، وغير كلمة خمسة آلاف، والجميع يعرفون أن ملكاً واحداً يكفي، فنزول خمسة آلاف من الملائكة بشرى كبيرة للمؤمنين، أضف إلى ذلك أن هذا العدد الكبير من الملائكة الذي اشترك في بدر هم مجموعة منتقاة من أفضل الملائكة، فالملائكة هم درجات.
روى البخاري عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه -من أهل بدر- قال: (جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين -أو قال كلمة نحوها، يعني: من أحسن المسلمين، أو من أعظم المسلمين- قال جبريل: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة).
أضف إلى ذلك أن جبريل وهو أفضل الملائكة على الإطلاق شارك في بدر بنفسه، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: (هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب) وفي رواية ابن إسحاق: (أبشر أبا بكر! أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع)، والنقع التراب.
إني أريد منك أن تعيش معي في أرض بدر، تخيل أن جبريل جاء من بعيد راكباً على فرس يجري، وهو ممسك بلجام الفرس، والتراب يتصاعد من حول الفرس، وخلفه ألف من الملائكة الفرسان ترفع سيوفها وعليها أدوات الحرب، كتيبة ملائكية حقيقية، وبعدها كتيبة والثانية والثالثة والرابعة والخامسة.
يا ترى! كيف كان شعور المسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم يشرح لهم أن الملائكة دخلت أرض الموقعة لتقاتل معهم؟ يا ترى! هل سيخاف المسلمون في موقف كهذا؟ هل من الممكن أن يهتزوا أو يجبنوا وهم يعرفون أن هناك جيشاً ملائكياً كاملاً يحارب معهم؟! هذا هو قول الله سبحانه: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:10].
ولم يعرف المؤمنون في بدر عن أمر الملائ
قذف الرعب في قلوب الأعداء
الجندي الثاني من جنود الرحمن في بدر هو جندي عجيب يقال له: الرعب، يلقيه الله عز وجل في قلوب الكافرين، روى البخاري ومسلم -رحمهما الله- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، وفي رواية أحمد يقول: (ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر)، يعني: قبل أن يصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العدو بمسيرة شهر يكون العدو قد أصيب بالرعب، ومعلوم أن الرعب يدخل في قلوب كل الناس، هذا شيء معروف، لكن العجيب أن يدخل الرعب في قلوب القوي من الضعيف، وأن يدخل الرعب في قلب الكثير من القليل، وأن يدخل الرعب في قلب من هو مدجج بالسلاح من الأعزل الذي لا يملك سلاحاً، هذا هو العجيب، وهذا الذي نراه دائماً مع جيوش المؤمنين، يقول سبحانه وتعالى في غزوة بدر: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12]، تخيل! سيلقي الله عز وجل بنفسه الرعب في قلوب الذين كفروا، وقد رأينا جيش مكة كيف كان مرعوباً من أوله إلى آخره، مع أنه ألف بعدة المحارب، والمسلمين ثلاثمائة بعدة المسافر، لكن ماذا تفعل لمن ألقى الله عز وجل الرعب في قلبه؟ وهذا واقع نراه إلى الآن، كم رأينا طفلاً صغيراً يمسك بحجر ويقف أمام دبابة غير خائف، والجندي داخل الدبابة لا يستطيع الخروج.
كم رأينا من طائرات وصواريخ تقصف كي تقتل رجلاً أعزل ولعله قعيد على كرسي! كم رأينا من فرق مسلحة بأقوى الأسلحة والأقنعة والأعداد والسيارات تذهب لتقبض على واحد لا يملك مسدساً أو خنجراً أو أي سلاح! وكثيراً ما نستغرب لماذا يحصل هذا؟ لكن لا نستغرب ونذكر أن الرعب جندي من جنود الرحمن سبحانه وتعالى.
إنزال الطمأنينة والسكينة وتغشية المؤمنين بالنعاس يوم بدر
الجندي الثالث: عكس الرعب، وهو الطمأنينة والسكينة والأمان الذي يصل إلى حد النعاس، يلقيه الله عز وجل في قلوب الذين آمنوا، والقلوب بين أصابع الرحمن، فكما ألقى الله عز وجل الرعب في قلوب الكافرين، ألقى السكينة في قلوب المؤمنين حتى اطمأنوا وثبتوا، وستجد حديثاً عن السكينة في كل المواقع التي حصل فيها النصر، في بدر والأحزاب وصلح الحديبية وحنين وهكذا.
يقول الله تعالى عن غزوة بدر: {إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11].
نزول المطر لإعاقة الكافرين وتطهير المؤمنين
الجندي الرابع من جنود الرحمن: المطر، فالله القادر أن ينزل المطر هنا أو هناك، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى:28]، والله هو الذي يقدر أن ينزل المطر هيناً لطيفاً على منطقة، وينزله وابلاً شديداً على منطقة مجاورة تماماً، ويكفينا أن نتذكر قول الله عز وجل: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11].



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق