العمل السري لمدة أربع سنوات وأربعة أشهر
كانت الخلية الرئيسية في تنظيم الإخوان المسلمين داخل القوات المسلحة مكونة من سبعة ضباط هم عبد المنعم عبد الرؤوف وجمال عبد الناصر وكمال الدين حسين وسعد توفيق وخالد محي الدين وحسين حمودة وصلاح خليفة.
وظلت هذه الخلية تعمل سراً طيلة أربع سنوات وأربعة أشهر بدءاً من عام 1944حتى 15مايو 1948 لضم أكبر عدد ممكن من الضباط إلى صفوف هذا التنظيم السري.
واتسع نطاق هذا التنظيم وتكونت خلايا جديدة فرعية منبثقة من الخلية الرئيسية فشكل كل فرد من أفراد الخلية الرئيسية خلية فرعية وكل خلية فرعية لا تزيد عن سبعة أفراد على ألا يخطر أي واحد منا الآخرين بأسماء المنضمين معه في هذه الخلايا السرية مراعاة لأمن الحركة.
وكان محمود لبيب يحضر الاجتماع الأسبوعي للخلية الرئيسية ويحضر أيضاً الاجتماعات نصف الشهرية للخلايا الفرعية المنبثقة من الخلية الرئيسية.
وأصبح بذلك محمود لبيب هو الشخص الوحيد في هذا التنظيم السري الذي يعرف جميع المشتركين فيه.. وصار محمود لبيب هو حلقة الاتصال بين الضباط المنضمين للتنظيم ليس في الجيش فقط بل وفي الطيران أيضاً.
وكان محمود لبيب بالنسبة لنا جميعاً في منزلة الوالد أو أكثر يحاول ربط أكبر عدد من ضباط القوات المسلحة على فكرة العمل بشريعة الإسلام.
واتسع نطاق العمل السري ليشمل قطاع المدنيين من شباب الإخوان المسلمينوذلك على النحو المفصل فيما يلي.
النضال الشعبي في مصر ضد قوات الاحتلال البريطاني
وبدأت مظاهرات الطلبة تطالب بالجلاء ووحدة مصر والسودان واحتك المتظاهرون بقوات الاحتلال التي أخذت تصليهم وابلاً من رصاص رشاشاتها بلا شفقة أو رحمة فسقط شهداء كثيرون مما ألهب الشعور الوطني في البلاد.
وكنا نحن الضباط السبعة في حالة غليان شديد ضد االإنجليز فطلبنا من محمود لبيب ضرورة العمل على تنظيم شباب الإخوان في خلايا سرية وتدريبهم على استعمال الأسلحة وأن نشرف على تنظيم حرب عصابات مسلحة للقتال ضد قوات الاحتلال.
فقال الصاغ محمود لبيب « إذا أردتم أن تعملوا معنا في هذا المجال فلا يد من أخذ العهد وحلف اليمين وفقاً للأسلوب المتبع في جماعة الإخوان المسلمين ».
مصحف ومسدس
ذهبنا نحن السبعة في ليلة في أوائل عام 1946 إلى المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين بالملابس المدنية حسب اتفاق سابق وبعد أن تكامل العدد ، قادنا صلاح خليفة إلى منزل في حي الصليبة بجور سبيل أم عباس حيث صعدنا إلى الطابق الأول فوق الأرضي فنقر صلاح خليفة على الباب نقرة مميزة وقال الحاج موجود؟ وكانت هذه هي كلمة السر.. ففتح الباب ودخلنا حجرة بها ضوء خافت جداً مفروشة بالحصير وفيها مكتب موضوع على الأرض ليس له أرجل.
ثم قادنا صلاح خليفة واحداً بعد واحد لأخذ العهد وحلف اليمين في حجرة مظلمة تماماً يجلس بها رجل مغطى بملاءة فلم نعرف شخصيته وحين جاء دوري جلست أمام هذا الرجل المختفي.
وكان سؤال هذا الشخص المتخفي الذي يأخذ العهد « هل أنت مستعد للتضحية بنفسك في سبيل الدعوة الإسلامية وإعلاء كلمة الله؟ ». فقلت « نعم ».
فقال « امدد يدك لتبايعني على كتاب الله وعلى المسدس سلاح العصر ، فوضعت يدي على مصحف ومسدسد وبايعته على فداء الدعوة الإسلامية وعدم إفشاء أسرارها.
وقال الرجل المتخفي:
«إن من يفشي سرنا فليس له منا سوى وفى جزاء واحد هو جزاء الخيانة وأظنك تعرف جيداً ذلك الجزاء ». وبعد أن بايع كل منا عدنا إلى الحجرة ذات الضوء الخافت فوجدنا شخصاً عرفنا بنفسه وذكر اسمه (عبد الرحمن السندي) وقال إنه يرأس التنظيم السري الخاص بجماعة الإخوان المسلمين وهو تنظيم سري مسلح يضم شبانا من الطلبة والعمال والفلاحين والحرفيين ممن باعوا أنفسهم لله واستعدوا للموت في سبيل إعلاء كلمة الله.
ثم ذكر كل واحد منا اسمه ليتعرف علينا عبد الرحمن السندي وكان الذي بايع على فداء الدعوة الإسلامية هي هذه الليلة هم بحسب الأقدمية في كشف الجيش المصري وقتذاك.
1- اليوزباشي عبد المنعم عبد الرؤوف.
2- اليوزباشي جمال عبد الناصر حسين.
3- الملازم أول كمال الدين حسين.
4- الملازم أول سعد حسن توفيق.
5- الملازم أول خالد محي الدين.
6- الملازم أول حسين حمودة (كاتب هذه السطور).
7- الملازم أول صلاح خليفة.
وفي هذه الليلة تفاهمنا مع عبد الرحمن السندي على أن تقوم بتدريب شبابالإخوان من أعضاء التنظيم السري على استعمال الأسلحة. فقال إنه سيرسل لنا شخصاً للاتفاق معه على تنظيم هذه العملية.
سوء تفاهم
اجتمعنا نحن الضباط السبعة المذكورين أعلاه في منزلجمال عبد الناصر في العباسية (في شارع فرعي بالقرب من تقاطع شارع أحمد سعيد بشارع الملكة نازلي.. رمسيس الآن) وكان ذلك في عصر يوم من أيام 1946.
وحضر شاب قصير نحيف أبيض يلبس الملابس الإفرنكية وعرفنا بنفسه وقال إن اسمه حجازي... فسألناه عن اسمه بالكامل فقال إنه اسمه الحركي حجازي ولا داعي لمعرفة معلومات عنه أكثر من ذلك.
وما لبث أن أخرج حجازي هذا مسدساً صغيراً بمشط من جيبه وأخذ يشرح لنا طريقة استعمال هذا المسدس.
دهشنا نحن الضباط لهذا التصرف الساذج والغريب وطلبنا من حجازي أن يتوقف عن الاستمرار في هذا الشرح وأن يرسل لنا عبد الرحمن السندي وحددنا له موعد ومكان الاجتماع القادم مع السندي.
جاء عبد الرحمن السندي في المكان والزمان المحددين وتكلم جمال عبد الناصرفقال : نحن ضباط صناعتنا الأسلحة واستعمالاتها فإذا كنتم تريدون الاستفادة من خبرتنا فلا مانع لدينا.
فاعتذر السندي وقال لقد حدث خطأ غير مقصود وإن حجازي كان موفدا لتدريب خلية من المدنيين على استعمال المسدس فأعطاه العنوان الخاص بجمال عبد الناصر خطأ وسهوا.
تدريب شباب الإخوان المسلمين :
قمت أنا وكمال الدين حسين وخالد محي الدين بترجمة كتاب عن حرب العصابات من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية وكنا نقعد حلقات الترجمة يومياً في منزلي بحمامات القبة بعد صلاة العصر.
وبعد أن فرغنا من الترجمة أعطيتها لجمال عبد الناصر الذي قام بطبعها في مطبعة الكلية الحربية حيث كان يعمل مدرساً بها.
وبعد الطبع أرسل جمال عبد الناصر النسخ المطبوعة إلي في منزلي بحمامات القبة مع أحد ضباط صف الكلية الحربية وكان هذا الأخير محل ثقة جمال عبد الناصر.
وسلمت بدوري جميع نسخ كتاب حرب العصابات بعد ترجمتها إلى العربية لعبد الرحمن السندي رئيس التنظيم السري المدني للإخوان المسلمين.
وقد قام عبد الرحمن السندي بتوزيع نسخ هذا الكتاب بمعرفته على أفراد التنظيم السري المدني التابع له.
وبدأنا بعد ذلك مرحلة جادة في تدريب شباب الإخوان المسلمين. وكانت التدريبات تتم في صحراء حلوان وجبل المقطم وفي محافظة الشرقيةومحافظة الإسماعيلية وقد اشترك جمال عبد الناصر معي في تدريب شبابالإخوان المسلمين عامي 1946 ، 1947 وكان التدريب يتم على الأسلحة الصغيرة مثل الطبنجات والبنادق والرشاشات القصيرة والقنابل اليدوية وأساليب النسف والتدمير بأصابع الجيلجنيت وأسلوب استخدام زجاجات المولوتوف ضد دبابات العدو. والتدريب كان يتم لرؤساء الخلايا وهم يدربون الأفراد التابعين لهم بدورهم وذلك لأن معرفة أفراد التنظيم بالكامل لأي شخص غير مطلوبة للأمن السري.
حوادث العصابات المسلحة ضد قوات الاحتلال
وشهدت مدن مصر والقاهرة والإسكندرية ومدن قناة السويسخلال عامي 1946 ،1947 حرب عصابات مسلحة ضد قوات الاحتلال البريطاني. وكان القائمون بهذا الكفاح المسلح ضد المحتلين شباب التنظيم السري المدني لجماعة الإخوان المسلمين برئاسة المرحوم عبد الرحمن السندي بعد أن قام عبد المنعم عبد الرؤوف وجمال عبد الناصر حسين وكاتب هذه السطور وبقية الزملاء من الضباطبتدريب هؤلاء الشبان على استعمال الأسلحة بأسلوب حرب العصابات (اضرب وأهرب).
اغتيال أمين عثمان
نجحت جمعية سرية من الشباب الوطني كان يتزعمها محمد أنور السادات في اغتيال أمين عثمان في يناير 1946 وكان أمين عثمان من أبرز عملاء الاستعمار البريطاني في مصر وكان قد أدلى بتصريحات علنية للصحف المصرية والعالمية تفيد أن بريطانيا قد تزوجت مصر زواجا كاثوليكيا (يعني لا طلاق فيه).
وكان أنور السادات وقت اغتيال أمين عثمان مفصولا من الجيش بسبب ضبطه في عوامة على النيل بها جاسوس لألمانيا.
وكانت أخبار الجمعية السرية التي يتزعمها أنور السادات تصلني عن طريق عبد المنعم عبد الرؤوف الذي كان قد كلفني باغتيال أمين عثمان.
وكان المحرض على قتل أمين عثمان هو الفريق عزيز المصري الذي كان يرى في قتل الخونة أعوان المستعمر المدخل الصحيح لإجلاء المستعمر عن البلاد بعد أن يفقد كل أعوانه وعملائه على أرض مصر.
ولقد تدخل محمود لبيب في آخر لحظة بعد أن علم بالموضوع من عبد المنعم عبد الرؤوف وطلب محمود لبيب مني عدم تنفيذ عملية اغتيال أمين عثمانخشية أن يؤدي التورط في تنفيذ عمليات الاغتيال إلى كشف التنظيم السريللضباط وقال محمود لبيب إن تشكيلا سرياً آخر سينفذ القتل في هذا الخائن.
جلاء الإنجليز عن القاهرةوالأسكندرية
اضطرت الحكومة البريطانية إزاء اشتداد حوادث الإرهاب المسلح ضد جنودها إلى إجلاء قواتها عن القاهرةأوالأسكندرية عام 1947.
وكان الفضل في تحقيق هذا الجلاء عن القاهرةوالأسكندرية إلى شباب الإخوان المسلمين الذين شنوا حرب عصابات ضد الإنجليز وكان ذلك بتوجيه لجنةالضباط السبعة التي ذكرتها قبل ذلك وهم عبد المنعم عبد الرؤوف وجمال عبد الناصر وكمال الدين حسين وسعد حسونة توفيق وخالد محي الدين وصلاح خليفة وكاتب هذه السطور (حسين حمودة).
حمزة البسيوني
في 6/ 6/ 1945 صدرت الأوامر للمكتبة الثالثة المشاة والتي كنت أخدم بها في ذلك التاريخ بالتحرك لأسوان فسافرت معها بالسكة الحديد.
وفي مدينةقنا وصلت تعليمات عاجلة بإنزال 40صف وعسكري من الكتيبة لتوزيعهم كإمدادات لمقاومة الجراد على سواحل البحر الأحمر بواقع 20 عسكري لمدينة الغردقة ، 20 عسكري لمدينة القصير.
فنزلت من القطار في محطة سكة حديد مدينة قنا بناء على تعليمات قائد الكتيبة ومعي 40 صف وعسكري يوم 7/ 6/ 1945.
ثم سافرت من مناجم الذهب بالسكري إلى إدفو بالسيارات مع قول عربات من وزارة الزراعة مع الملازم أول حمزة البسيوني وفي الطريق من السكري إلى إدفو كنت أنا وحمزة البسيوني في السيارة الأمامية وكان حمزة البسيوني يقود السيارة بنفسه ووراءنا قول عربات وزارة الزراعة وبه مهندسون زراعيون من الوزارة المذكورة لا أذكر أسماءهم الآن.
وأثناء السير في الصحراء شاهد حمزة البسيوني غزالة تجري في الصحراء فترك الطريق المرصوف وجرى بالسيارة وراء الغزالة أملاً في اصطيادها.
وظل يطاردها حوالي ساعة ولم يستطع اللحاق بها لأنها كانت أسرع من السيارة وهربت منه في الجبال. فعدنا إلى الطريق المرصوف لنبحث عن سيارات وزارة الزراعة فوجدنا قول سيارات وزارة الزراعة ترجلوا من سياراتهم وفي انتظارنا.
ولما وصلنا عندهم تكلم أحدهم وكان رجلاً يكبرنا في السن بكثير فقال « إية شغل العيال ده تسيبونا في الصحراء تجروا وراء الغزال وتقعدوا ساعة مش تلاحظوا أن معكم ناس ».
فما كان من حمزة البسيوني إلا أن جرى وأحضر بندقية من السيارة وحاول تعميرها بالرصاص وقتل هذا المهندس الزراعي.
فجريت نحو حمزة البسيوني وخطفت منه البندقية وقلت له « أنت مجنون » هم لهم حق وإحنا اللي غلطانين. وطيت خاطر السادة مهندسي الزراعة واعتذرت لهم عن هذه الواقعة وكانوا جميعاً أكبر منا في السن فقبلوا الاعتذار.
من هذه الواقعة أيقنت أن حمزة البسيوني إنسان غير طبيعي وأن خلق التوحش والقسوة والإجرام سجية فيه ولم أدر في ذلك الوقت ما تخبثه الأقدار لشعبمصر على يد ذلك السفاح المجرم حمزة البسيوني.
مدرسة المشاة بألماظة
بعد حل المشكلة التي طرأت مع مهندسي الزراعة واصلنا السير بالسيارات إلى إدفو ومن إدفو لأسوان بالسكة الحديد.
وبقيت بأسوان مع عبد المنعم عبد الرؤوف في الكتيبة الثالثة المشاة إلى أن صدر قرار بنقلي مدرساً المشاة بألماظة.
وتشاء الصدف العجيبة أن ينقل عبد المنعم عبد الرؤوف معي مدرساً بمدرسة المشاة في نفس النشرة العسكرية.
وفي يوم 3/ 7/ 1945 قدمت نفسي لمدرسة المشاة ومكثت بها ثلاث سنوات انتهت يوم 30/ 6/ 48 وكان عبد المنعم عبد الرؤوف زميلا لي في مدرسة المشاة في هذه الفترة التاريخية.
وقد أتاحت لي فرصة البقاء في القاهرة ثلاث سنوات متصلة في الفترة من منتصف عام 1945 حتى منتصف عام 1948 مع زميلي عبد المنعم عبد الرؤوفمجالاً واسعاً في تدعيم النشاط السري للإخوان المسلمين بين ضباط القوات المسلحة وفي تدريب التنظيم السري المدني للإخوان.
سفري لفلسطين في بعثة تعليمية
بعد أن قدمت نفسي لمدرسة المشاة يوم 3- 7- 1945 وقع الاختيار علي للسفر إلى مركز تدريب الشرق الأوسط بفلسطين والذي كان تابعاً للقوات البريطانية.
فسافرت يوم 23- 10- 1945 إلى هذا المركز للحصول على فرقة هاون 3 من مدرسة المشاة البريطانية.
وكان الإنجليز قد نقلوا معاهد ومراكز التدريب الخاصة بقواتهم من الجزيرة البريطانية إلى فلسطين في الفترة من عام 1940 حتى عام 1946 تفادياً للغارات الجوية الألمانية على بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية.
وقد سافرت مع شعراوي جمعه لحضور هذه الفرقة ونزلنا في خيمة في مركز التدريب كان معنا فيها ضابط برتبة ملازم إنجليزي اسمه (Berry) وتعايشنا نحن الثلاثة أنا وشعراوي جمعة و Berry في خيمة واحد فترة الدراسة بمدرسة المشاة البريطانية بفلسطين وكان معنا في ذلك الوقت ضباط من مختلف الجنسيات من الإنجليز والاستراليين والنيوزيلنديين وجنوب أفريقيا والهند وشرق الأردنوالعراق ومصر والسودان وتركيا وقد شاهدت في هذه الفترة مدن غزة ويافا وتل أبيب وحيفا وعكا وبيت المقدس وكان ذلك قبل نكبة فلسطين في سنة 1948حيث اغتصب اليهود أراضي عرب فلسطين وأجلوهم عنها بالقوة بعد 15 مايوسنة 1948.
رأيت عرب فلسطين عام 1945 وهم يعيشون في مدنهم وقراهم قبل الكارثة معززين مكرمين يعملون في الزراعة والتجارة وغير ذلك من الأعمال المشروعة.
وتشاء الظروف بعد ذلك أن أرى بعيني رأسي عرب فلسطين بعد نكبة مايو 1948وهم مشردون بعد أن تركوا أموالهم وديارهم ومساكنهم ومصادر أرزاقهم وعاشوا لاجئين في الخيام بعد أن شردهم اليهود بلا شفقة ولا رحمة وتركوهم في الصحراء تحت وطأة البرد القارص والسيول والشمس الحارقة بلا مأوى متعرضين للموت جوعاً وعطشا وللهلاك من البرد وضربة الشمس.
لقد رأيت بنفسي العائلات الكريمة والنساء الفاضلات والأطفال الأبرياء وهم يتعذبون عذاباً لا يحتمله بشر بعد كارثة سنة 1948... رأيتهم ينتفضون من شدة البرد ، يتسولون القوت من مراكز إغاثة اللاجئين التي أرسلتها لهم الأمم المتحدة.
إن النكبة التي حلت بشعب فلسطين عام 1948 لا يمكن وصفها والظلم الادح الذي تعرض له هذا الشعب العربي الفلسطيني على يد الإنجليز واليهود فيه قسوة بالغة ووحشية رهيبة.
موقف لخالد محي الدين
في عام 1947 نقل خالد محي الدين إلى التدريب الجامعي وأراد انتهاز الفرصة للاستزادة من العلم فالتحق بكلية التجارة حيث اتصل به جماعة من الماركسيين وأقنعوه بمذهبهم.
وقد ناقشني خالد محي الدين في يوم من أيام عام 1947 وكنا سوياً في منزله بباب الخلق قائلاً إنه نشأ في أسرة دينية وأبوه من أتباع إحدى الطرق الصوفية وأنه -أي خالد محي الدين- يشاهد لأتباع هذه الطرق الصوفية خرافات تأباها العقول السليمة مما عقده من ناحية رجال الدين.
فقلت له لك بعض الحق يا أخي فإن كثيراً من الخرافات أدخلها بعض أدعياء الصوفية في أفهام وعقول العوام من الناس. والإسلام بريء من الخرافة ومن كل شيء غير معقول لأن الإسلام دين العقل والعلم. وقد أعجبني في خالد محي الدين صراحته وعدم لجوئه إلى إخفاء ما يعتقده كما يفعل المنافقون. فكان خالد محي الدين واضحاً وصريحا وكان شهما في المحافظة على الأسرار التي ائتمن عليها أثناء صلته بالإخوان المسلمين.
وبالنسبة لإنكار كارل ماركس لوجود الله وإنكاره للأديان وقوله عنها إنها أفيون الشعوب فلا أعتقد على الإطلاق أن هذه المقولة يؤمن بها خالد محي الدين.
حقيقة الماركسية
الماركسية مذهب فلسفي ابتدعه كارل ماركس اليهودي لإخراج الشعوب من دائرة الإيمان بالله إلى دائرة الكفر.
يقول ماركس « إن الدين أفيون الشعوب ، إنه يخدرها بالأمل في الآخرة والجنة ونحن لا نؤمن بذلك ». ويقول لينين « إننا لا نؤمن بالله ونحن نعرف كل المعرفة أن أرباب الكنائس لا يخاطبوننا باسم الله إلا استغلالا.
ومن بعد لينين يقول ستالين :
« إن العالم يسير دون أن يكون له مسير » منكراً بذلك وجود الله تعالى... وعلى هذا تعتبر الماركسية مذهباً من مذاهب الكفر والزندقة والإلحاد.
حقيقة التصوف
التصوف الحق ليس تهريجا وإنما هو رفع للإنسان إلى أعلى درجات الكمال الإنساني عن طريق جهاد النفس الأمارة بالسوء. وأهل التصوف الحقيقيون هم الذين نذروا أنفسهم لإضاءة حياة الإنسان بنور الله. وأصل التصوف العكوف على عبادة الرحمن وترك كل خلق دني والدخول في كل خلق سني.
الفصل الثاني: حرب فلسطين سنة 1948
مقدمة
فلسطين بلاد عربية منذ أكثر من تسعة عشر قرناً... ولكن السياسة البريطانية الظالمة أبت إلا أن تجعل من شعبها العربي كبش الفداء أمام نفوذ اليهود.
إن قيام إسرائيل كان ولا يزال وليد نفوذ اليهودية العالمية المتحكمة في مقدرات كل من معسكر الرأسمالية الغربية ومعسكر الشيوعية الدولية.
وقد قال هرتزل أحد مؤسسي الصهيونية « إن سر قوتنا هو في تشتيت شعبنا في جميع أنحاء العالم وليس هذا هو علامة الضعف كما يتصور الناس ».
إن تضامن اليهود المنتشرين في معسكر الاستعمار الغربي وفي معسكر الشيوعيةالدولية جعل لهم نفوذا عالمياً ضخماً في كل المعسكرين الغربي والشرقي وجعل أعظم الدول قوة في التاريخ المعاصر وهي الولايات المتحدة الأمريكية ترضخ صاغرة لسلطة اليهود.
الشعب العربي الفلسطيني
في الوقت الذي كان يهود العالم كله يؤيدون إخوانهم اليهود الذين تسللوا إلىفلسطين منذ صدور وعد بلفور سنة 1917 تأييداً عملياً بالمال والسلاح ووسائل الإعلام التي يسيطر عليها اليهود في أوربا وأمريكا والكفاءات العسكرية من كل جيوش العالم حيث لليهود جاليات منتشرة في جميع أنحاء الكرة الأرضية.
كان الشعب العربي الفلسطيني يقف في الميدان وحدة يصارع اليهودية العالمية والاستعمار البريطاني ولا يجد من العرب أدنى عون اللهم إلا تلك الخطب المنبرية التي أجادها العرب دون خلق الله أجمعين. ولقد ظل هذا النوع الغريب من الجهاد هو المسيطر على عقول حكام العرب منذ بدأ الصراع بين العرب واليهود في 15مايو 1948 وحتى قارعة 5 يونيو 1967 حيث ظهرت النتيجة الحتمية لإيجابية اليهود وسلبية العرب.
ولقد استغلت اليهودية العالمية تصريحات زعماء الأمة العربية والخاصة بنوايا العرب في إلقاء اليهود في البحر فحشد الإعلام اليهودي إمكانياته الكبيرة والخطيرة وكتل الرأي العام العالمي وراء أهداف اليهود.
ولم يكن في استطاعة الشعب العربي الفلسطيني ولا في مقدوره أن يقوم بأي عمل جدي نحو إعداد نفسه للقتال لأن القيود التي فرضها عليه الإنجليز كانت تمنع العرب من إحراز الأسلحة فضلاً عن الظهور بها والتدريب عليها.
ومن الظلم أن يلام الشعب العربي الفلسطيني على هذا التقصير المعيب. ولكن اللوم يتركز كله على حكام الدول العربية الذين شغلوا أنفسهم بمعالجة قضيةفلسطين عن طريق الكلام دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة العمل الجدي فيقيموا المعسكرات في الدول العربية التي كانت تتمتع بشيء من الاستقلال ويتولوا تدريب الشباب الفلسطيني على أيدي الضباط العرب حتى يصبح شعب فلسطينمستعداً للدفاع عن بلاده إذا جد الجد.
استعدادات يهود فلسطين الحربية
كان يهود فلسطين مستعدين منذ بعيد تحت ستار من الكتمان وكان زعماء اليهود يقتصدون كثيراً من التصريحات تاركين هذه المهمة لزعماء العرب الذين كانوا يرسلون التصريحات كل من عاصمة حكمه بصورة كان من شأنها تحزب الرأي العام العالمي كله في صف اليهود الضعفاء المعرضين لافتراس الوحوش العربية وكانت هذه التصريحات التي أعلنها حكام العرب في ذلك الوقت أعظم خدمة قدمها زعماء العرب من حيث لا يشعرون للدولة اليهودية القادمة.
وكان اليهود يملكون عدة منظمات عسكرية في فلسطين. وكانت هذه المنظمات تزيد في مجموعها على ثمانين ألف جندي يهودي كاملي العدة والسلاح مدربين أحسن تدريب.
وكانت جميع القرى اليهودية (المستوطنات) منتشرة وموزعة بطول فلسطينوبعرضها ومقامة على أساس عسكري يناسب الهجوم والدفاع. وكانت هذه المستعمرات اليهودية محصنة ومحاطة بالأسلاك الشائكة والألغام المضادة للأفراد والدبابات ومليئة بالأسلحة والذخائر والمعدات الحربية وبها ملاجئ للوقاية من الغارات الجوية ومواقع لضرب النار أعدت بمهارة فنية.
وأقام اليهود مصانع بهذه القرى وقاموا بتهريب أجزاء الدبابات والسيارات المدرعة مفككة وخبئوها في مستعمراتهم حتى إذا جاء الوقت المناسب خرجت من مخابئها وركبت أجزاؤها وهاجم اليهود بها عرب فلسطين العزل من السلاح فأخرجوهم من أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم.
وهكذا كان الاستعداد اليهودي أما الجانب العربي فكان على النقيض تماماً.
الإخوان المسلمين وحرب فلسطين سنة 1948
حينما وضحت نيات الحكومة البريطانية في تهويدفلسطين أخذ الإخوان المسلمون يبينون للشعوب والحكومات العربية حقيقة الخطر اليهودي الذي يهدد الأمة العربية كلها.
ولقد أدرك اليهود ما ينطوي عليه نشاط الإخوان المسلمين من خطر شديد على أهدافهم فقاموا بنشر المقالات في صحف أوروبا وأمريكا ويفعمونها بالتهم الخطيرة عن الإخوان المسلمين وحقيقة خطرهم على مصالح أمريكا وبريطانيا وكانوا يحاولون استعداء الحكومة الأمريكية لتقوم بعمل حاسم يستأصل هذا الخطر الإسلامي الذي يهدد أطماع الولايات المتحدة الأمريكية في التهام العالمالإسلامي بعد جلاء الإنجليز والفرنسيين والذي بات متوقعاً نتيجة لتغير موازين القوى العالمية إثر الحرب العالمية الثانية.
وليس أدل على ذلك من مقال نشرته جريدة (الصنداي ميرور) في مطلع عام1948 ونقلته جريدة المصري القاهرية.
قالت الجريدة في مقالها : إن الإخوان المسلمين يحاولون إقناع العرب بأنهم أسمى الشعوب على وجه البسيطة ، وأن الإسلام هو خير الأديان جميعاً وأفضل قانون تحيا عليه شعوب الأرض كلها.
والآن وقد أصبح الإخوان المسلمون ينادون بالاستعداد للمعركة الفاصلة التي توجه ضد التدخل المادي للولايات المتحدة الأمريكية في شئون الشرق الأوسط عن طريق إقامة دولة يهودية في فلسطين فقد حان الوقت للشعب الأمريكي أن يعرف أي حركة هذه وأي رجال يتسترون وراء هذا الاسم الرومانتيكي الجذاب (الإخوان المسلمون).
وقالت الجريدة : وهذا هو بيت القصيد -إن اليهود في فلسطين الآن هم أعنف خصوم الإخوان المسلمين ولذلك كان اليهود الهدف الأساسي لعدوان الإخوان. وإذا كان اليهود المدافعون عن فلسطين يطالبون مجلس الأمن بإرسال قوة دولية لتنفيذ مشروع التقسيم الذي أقرته هيئة الأمم بتاريخ 29/ 11/ 1947 فإنهم لا يطالبون بذلك لأن الدولة اليهودية في حاجة إلى الدفاع عن نفسها ولكنهم يريدون إرسال هذه القوة الدولية إلى فلسطين لتواجه رجال الإخوان المسلمينوجهاً لوجه وبذلك يدرك العالم كله الخطر الحقيقي الذي تمثله هذه الحركة.
وإذا لم يدرك العالم هذه الحقيقة في وقت قريب فإن أوروبا وأمريكا والعالم سيفاجأ في نهاية القرن العشرين بإمبراطورية إسلامية تمتد من الباكستان شرقاً حتى بلاد المغرب على المحيط الأطلسي غرباً. ولم يكن هذا المقال هو الأول من نوع إذ دأبت الصحف الأوروبية والأمريكية التي يسيطر عليها اليهود على نشر مقالات طويلة من هذا النوع.
ولم يضيع الإخوان المسلمون جهدهم في مناقشة هذه الأقوال إذ أخذ خطباءالإخوان ودعاتهم يجوبون المدن والقرى داعين الناس إلى الجهاد في سبيل الله لإنقاذ أراضي فلسطين المقدسة من ألد أعداء الإسلام. فقامت في مصر حركة إسلامية عنيفة وعمت المظاهرات المدن الكبرى في جميع أنحاء البلاد مطالبة الحكومة المصرية بالتدخل العسكري للقضاء على الدولة اليهودية في مهدها.
واندفعت حشود هائلة من شباب مصر والتي جاءت من الأقاليم والمراكز والقرى حتى اكتظ بهم المركز العام لجماعة الإخوان وضاقت بهم شعب القاهرة وبدأت اتصالات كثيرة بالحكومة المصرية وبعبد الرحمن عزام أمين الجامعة العربية انتهت بموافقة الحكومة المصرية على تكوين فرق من المتطوعين بقيادة ضباط مصريين متطوعيين وتتولى الجامعة العربية ، الإنفاق على هذه الفرق.
ورحب الإخوان بالفكرة وبدأت حركة التطوع عن طريق المركز العام للإخوان المسلمين وكان يشرف على تنظيم حركة التطوع المجاهد الكبير المرحوم الصاغمحمود لبيب ونجح بمعونة بعض الشخصيات المجاهدة وعلى رأسهم عبد الرحمن عزام أمين الجامعة العربية واللواء عبد الواحد سبل مدير عملياتالجيش المصري في إقامة معسكرات للتدريب تتولى الجامعة العربية الإنفاق عليها ويشرف على التدريب ضباط مصريون من جيش مصر العامل.
وبدأت الكتيبة الأولى تدريبها وسافرت إلى ميدان القتال يوم 25/ 4/ 1948بقيادة البطل الشهيد المرحوم البكباشي أحمد عبد العزيز ومعه عدد من الضباط المتطوعين هم زكريا الورداني وعبد المنعم عبد الرءوف ومعروف الحضريوكمال الدين حسين وحسن فهمي عبد المجيد ومصطفى صدقي وخالد فوزيوأنور الصيحي.
وقد لمع البطل أحمد عبد العزيز في هذه الحرب ودأبت الصحف العربية والعالمية على تتبع أنبائه وتحركاته وعملياته الحربية وأولته من العناية والاهتمام ما لم تول أحداً من قادة الجيوش العربية النظامية ممن يفوقونه في الرتبة والمنصب.
وكان البطل أحمد عبد العزيز شخصية عسكرية نادرة تتميز بجرأة خارقة وولع شديد بالمغامرة واعتزاز بنفسه. اندفعت الكتيبة الأولى من متطوعي الإخوان المسلمين تحت قيادة البطل أحمد عبد العزيز (وفي صحبته الشيخ محمد فرغلي) يوم 5/ 5/ 1948 فوق فلنكات السكة الحديد حتى خان يونس ثم انطلقت بسرعة مخترقة صحراء النقب مستخدمة تكتيك الضرب والحركة وأخذت تكتسح المستعمرات اليهودية وتعترض القوافل المعادية وتفتك بها وتغنم أسلحتها حتى وصلت إلى بيت لحم وأشرفت على مدينة القدس الشريف.
وقاد الكتيبة الثانية من متطوعي الإخوان المسلمين البكباشي عبد الجواد طبالهوكانت هذه الكتيبة ترافق الجيش المصري وتشترك معه في الدفاع عن منطقةغزة وتتولى حصار بعض المستعمرات اليهودية وتقوم بحراسة النقط الهامة على خطوط مواصلات الجيش المصري ثم استقرت بعد ذلك مع زميلتها الكتيبة الأولى في بيت لحم عقب استشهاد أحمد عبد العزيز.
وتولى قيادة الكتيبتين الأولى والثانية بعد وفاة البطل أحمد عبد العزيز البكباشيعبد الجواد طبالة وتجمعت الكتيبتان في منطقة جنوب القدس الشريف حيث كان من نصيب هذه القوات الدفاع عن منطقة الخليل وبيت لحم ومرتفعات صور باهر.
وتم المحافظة على هذه المنطقة الهامة حتى تم تسليمها للجيش العربي الأردني بعد وقف القتال وإعلان الهدنة. وكم كان جميلاً أن يقوم الإخوان المسلمونبالدفاع عن مقدسات المسيحيين في فلسطين ، إذ كان نصيبهم الدفاع عن مدينة بيت لحم التي تقع على بعد ستة أميال جنوب القدس وهي إحدى المدن المسيحية المقدسة ، إذ تقع فيها كثير من آثار المسيحيين وكنائسهم وبخاصة كنيسة المهد التي يحج إليها مسيحيون من جميع أنحاء العالم وغالبية سكانها من المسيحيين العرب.
وقد احتفى المسيحيون بالإخوان المسلمين عند دخولهم للدفاع عن مدينتهم وكان الإخوان يبادلونهم هذا الشعور الكريم لما رأوه من إخلاصهم ولما شاهدوه من غيرة صادقة على كرامة العرب. وقد استشهد حول أسوار بيت لحم عدد هائل من شباب الإخوان المسلمين دفاعاً عن مقدسات المسيحيين وظل الإخوانيدافعون عن مدينة بيت لحم عاماً كاملاً دون أن تقع حادثة واحدة من تلك الحوادث التي تقع عادة بين الجنود والمدنيين من أهل البلاد.
وقد تحدثت صحف العالم العربي والصحافة العالمية عن بسالة متطوعي الإخوانفي حرب فلسطين 1948 وأنهم كانوا يتسابقون على نيل الشهادة في سبيل الله.
الجيش المصري في حرب فلسطين 1948
أنهى االإنجليز انتدابهم على فلسطين وغادروها يوم 15 مايو 1948 ودخلت الجيوش العربية في الدقيقة الأولى من يوم 15 مايو 1948 من الشمال والشرق والجنوب إلى أرض فلسطين لإنقاذ شعبها العربي من الكارثة المتوقعة.
وكانت الخطة العربية تقضي بأن يتقدم الجيش المصري بسرعة على الطريق الساحلي من قرية رفح المصرية حتى قرية (بيناً) على بعد عشرين ميلاً جنوب تل أبيب. حيث تكون الجيوش العربية الأخرى الزاحفة من الشرق والشمال وقد احتلت نقطاً مماثلة شمال وشرق تل أبيب.
ثم تقوم القوات العربية بفرض الحصار على عاصمة العدو في تل أبيب لإجباره على التسليم. توغل الجيش المصري في فلسطين بسرعة مستخدماً الطريق الساحلي.
وقد اقتحم الجيش المصري أثناء تقدمه المستعمرات اليهودية التي اعترضت زحفه ، فهاجم مستعمرة الدنجور القوية التحصين والقريبة من الحدود المصرية يوم 16 مايو 1948 ودكها بالمدفعية ثم حاول اقتحامها بالمشاة ولكنه وجد مقاومة عنيفة اضطرته لتركها مكتفيا بفرض الحصار عليها ومواصلة الزحف. فاجتاز الجيش المصري بلده خان يونس بلا مقاومة.
ثم اقتحم الجيش المصري الباسل يوم 19 مايو 1948 مستعمرة دير سنيد الحصينة شمال غزة وقاوم العدو مقاومة عنيفة غير أنه اضطر إلى إخلائها أمام ضغط القوات المصرية تاركاً خلفه مئات القتلى والجرحى وكميات ضخمة من المؤن والعتاد الحربي.
وواصل الجيش المصري الزحف شمالاً على الطريق الساحلي وهاجم المستعمرات اليهودية الواحدة تلو الأخرى فهاجم مستعمرة كفار ديروم ومستعمرة بيرون أسحق ومستعمرة كوكبة ومستعمرة نجبا.
ونجح الجيش المصري في اقتحام مستعمرة نيتسالبم قرب أسدود بعد معركة دامية أظهر الجنود المصريون فيها من ضروب البسالة والفدائية ما يجعلهم في طليعة المقاتلين الممتازين.
وكان مقرراً أن يواصل الجيش المصري زحفه شمالاً حتى قرية بينا جنوب تل أبيب حسب الخطة الموضوعة ولكن ما كادت طلائع الجيش المصري تجتاز بلدة أسدود وتقترب من الهدف حتى هاجمتها القوات اليهودية هجوماً عنيفاً ، غير أنالجيش المصري أفلح في صد هذا الهجوم وكبد اليهود خسائر فادحة.
ولكن اليهود بهجومهم هذا حققوا نتيجة واحدة هي تثبيت الجيش المصريشمال بلدة أسدود وكانت هذه هي نقطة التحول في حرب فلسطين سنة 1948.
إذ لزم الجيش المصري بعد ذلك خطة الدفاع وبدلاً من الاستمرار في الزحف شمالاً في اتجاه تل أبيب زحفت القوات المصرية شرقاً واتصلت بقوات الإخوان المسلمين المرابطة في جبال الخليج وبيت لحم.
وبذلك أصبحت القوات المصرية تكون إطاراً حول منطقة معادية تموج بمئات المستعمرات اليهودية التي تأوي عشرات الألوف من جنود اليهود.
لقد وزع اليهود مستعمراتهم في فلسطين توزيعاً عسكرياً يضمن لهم الاستمرار في القتال مدة طويلة.
ورفض بن جوريون رفضا باتا بناء العمارات في إسرائيل ورفض رفضا باتا بناء المدن ما عدا مدينة تل أبيب.
لقد بنى بن جوريون شبكة ضخمة من القرى (المستعمرات أو المستوطنات) تزيد على ألف مستعمر منتشر انتشاراً أفقياً واسعاً بطول فلسطين وبعرضها.
لقد وزع اليهود مستعمراتهم في الصحراء وكل مستعمرة تحوي مئات من الجنود ومقادير كبيرة من الأسلحة والذخائر ومعدات الحرب.
ويمكن عند إعلان حالة الطوارئ سحب نصف جنود المستعمرة إلى أماكن تجمع معروفة سلفاً لكل فرد فيتكون فوراً خلال 24 ساعة جيش نظامي ضخم.
وقد كان لكل مستعمرة مصادر ذاتية للتموين كحظائر الماشية المنتجة للحم واللبن وحظائر الدواجن المنتجة للبيض ولحم الدواجن وخلايا النحل المنتجة لعسل النحل.. وهذه المستعمرات متصلة ببعضها بشبكة من الطرق المرصوفة ووسائل الاتصال السلكية واللاسلكية وشبكة ضخمة من مواسير المياه العذبة لري الأراضي المجاورة للمستعمرة لزراعتها بالأعلاف الخضراء التي تصلح غذاء للماشية كما يزرع سكان المستعمرة الخضر والفواكه وبعض الحبوب كالذرة والشعير. وبكل مستعمرة خزان علوي للمياه النقية الصالحة للشرب الآدمي وذلك بعد تطهير المياه والتأكد من صلاحيتها للاستعمال الآدمي.
ونظراً لندرة المياه في إسرائيل فقد لجأت إسرائيل إلى طريقة الري بالرش وبالتنقيط وإلى تحلية مياه البحر المالح.
وجميع هذه القرى الإسرائيلية مضاءة بالكهرباء وتستخدم الطاقة الكهربائية لأغراض الزراعة والري والصناعة.
فهذه المستعمارت اليهودية زراعية صناعية عسكرية وأهلها المقيمون فيها هم المدافعون عنها... ويتولى نساء اليهود رعاية وإطعام الأبقار والدواجن وخلايا النحل والحراسة المحلية ونساء اليهود مدربات على حمل السلاح والدفاع عن النفس.
وقد تعجب أن كثيراً من ضباط الجيش الإسرائيلي كانوا ضباطاً في الجيش الروسي خلال الحرب الروسية الألمانية 1942- 1945 ومنهم من كان في الجيش البريطاني ومنهم من كان في جيش الولايات المتحدة الأمريكية ومنهم من كان في جيش جنوب أفريقيا.
وعندما أعلنت اليهودية العالمية عن حاجتها لضباط لقيادة جيش الدفاع الإسرائيلي هرع إليها الضباط اليهود من كل جيوش العالم.
لزم الجيش المصري مواقعه التي احتلها في الخط العام من الغرب إلى الشرق (المجدل - عراق سويدان - الفالوجا - بيت جبرين - الخليل مع لسان بارز إلى أسدود عند ساحل البحر الأبيض المتوسط).
وإذا بالدول العربية تقبل الهدنة الأولى لمدة أربعة أسابيع تبدأ من 11- 6- 1948. وقد اغتنم اليهود فرصة الهدنة فهاجموا قرية العسلوج واجتلوبها.
وكان احتلال العسلوج يعني قطع مواصلات الجيش المصري في القطاع الشرقي من الجبهة المصرية مما دعا القيادة العسكرية المصرية إلى تنظيم خطة لاستردادها.
وأترك وصف المعركة الخاصة باسترداد قرية العسلوج للواء أحمد علي المواويالقائد العام لحملة فلسطين سنة 1948 وهي مقتبسة من شهادة أدلى بها سيادته بين يدي القضاء المصري في إحدى قضايا الإخوان المسلمين والتي عرفت باسم قضية سيارة الجيب.
وكانت إجابة اللواء أحمد المواوي رداً على سؤال وجهه إليه الدفاع في القضية المذكورة.(فى التدوينة القادمة))
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق