الثلاثاء، 20 يناير 2015

محنة الإخوان المسلمون سنة 1954 ، سنة 1965

محنة الإخوان المسلمون سنة 1954 ، سنة 1965

لا - للحكم المطلق

بعد عودتي من الولايات المتحدة في نهاية ديسمبر سنة 1953 عينت في وظيفة أركان حرب اللواء السابع المشاة بالعباسية.
وفي يوم 14/ 1/ 1954 نشرت صحف القاهرة بياناً صادراً من مجلس قيادة الثورة بحل جماعة الإخوان المسلمين واعتقال حسن الهضيبي مرشد الجماعةوبعض أعضاء الجماعة وأودعوا السجن الحربي.
وفي مساء يوم الجمعة 15/ 1/ 1954 كنت في ميدان الأوبرا حيث التقيت بالدكتور غراب والصاغ خليل نور الدين فجلسنا بعض الوقت في كازينو أوبرا نتجاذب أطراف الحديث.
وعند انصرافنا تقابل خليل نور الدين مع شخص يعرفه يتردي الملابس المدنية فعرفنا به وهو الصاغ أحمد سبل .
وقال له خليل نور الدين تعال معنا نوصلك في طريق عودتنا إلى منازلنا؛ فركبنا نحن الأربعة الدكتور غراب وأنا و خليل نور الدين و أحمد سبل عربة الدكتور غراب.
فعرفت من أحمد سبل أنه نجل اللواء عبد الواحد سبل ، فقلت له إني أعرف والدك وهو رجل معروف في الجيش بتدينه الشديد. وأثناء سير السيارة قالأحمد سبل : ما رأيكم في قرار مجلس الثورة بحل جماعة الإخوان المسلمين ؟ فقلت له الموضوع غريب وبخاصة اتهام مجلس الثورة الإخوان بأنهم اتصلوا بالإنجليز من خلف ظهر مجلس قيادة الثورة ، وقلت أنا سأستفسر عن هذا الموضوع من جمال عبد الناصر لأعرف تفاصيل الموضوع.
فقال أحمد سبل «الموضوع واضح ولا يحتاج إلى استفسار فمجلس الثورة يريد الاستبداد بحكم البلاد واحنا لو سكتنا فما حدش هيقدر عليهم بعد كده» ثم قال «أنا عندي 12 ضابط إخوان مسلمين في آلاي مدفعية واحد وهم ثائرون جداً لحلالإخوان وعايزين يعملوا حاجة إيجابية ، فإذا كنت يا خليل تعرف حد من ضباطالإخوان في المشاة أو المدرعات تبقى قوة كافيه هتقدر تعمل حاجة تخلص مصرمن هذا الطغيان.
فقلت له لا داعي لمثل هذا الكلام ولا داعي لإثارة المشاعر وعلينا التزام الهدوء حتى تتضح الأمور لأن جو الإثارة والانفعال ليس في مصلحة البلاد. وانصرف كل منا إلى منزله.
وفي صباح 18/ 1/ 1954 اتصل بي تليفونيا في مكتبي برئاسة اللواء السابع المشاة بالعباسية الصاغ أركان حرب صلاح نصر مدير مكتب اللواء عبد الحكيم عامر قائد عام القوات المسلحة وطلب مني الحضور لمبنى القيادة العامة لمقابلة القائد العام للقوات المسلحة.
فذهبت العلماء الفور وصعدت إلى مكتبه فاستقبلني صلاح نصر وأدخلني غرفة القائد العام.
فوجدت جمال عبد الناصر جالساً على مكتب عبد الحكيم عامر ولم يكن عبد الحكيم عامر موجوداً في مكتبه.
فسألني جمال عبد الناصر عن مدى صلتي الآن ب الإخوان المسلمين فقلت له إن صلتي ب الإخوان المسلمين أنت تعرفها جيداً ولا تعدو الصلة التي كانت تربطني وتربطك بهم منذ عام 1943 حتى 15 مايو 1948 وهو تاريخ دخول الجيش المصري حرب فلسطين حيث انقطعت صلتي ب الإخوان .
واشتركت معك سنة 1950 في تنظيم الضباط الأحرار كما هو معلوم لديك جيداً. ولما نقلت مدرسا بالكلية الحربية في 19/ 11/ 1950 انتظمت في نواة الضباط الأحرار بالكلية الحربية كما اتفقت على ذلك معك واشتركت في تنفيذ الثورة ليلة 23/ 7/ 1952 بتجهيز معتقل الكلية الحربية كما هو معلوم لك.
وأنت تعلم جيداً أني لا أعرف أحداً من الإخوان المسلمين غير المرحوم حسن البناوالمرحوم محمود لبيب و عبد الرحمن السندي رئيس التنظيم السري المدني لجماعة الإخوان المسلمين .
أما القيادة الجديدة للإخوان فلا أعرف حسن الهضيبي ولا أعرف أحداً من أعضاءمكتب الإرشاد ولا أي شخص في جماعة الإخوان المسلمين على الإطلاق.
ولقد قطعت صلتي ب عبد الرحمن السندي بناء على نصيحتك لي في سنة 1950بعد أن أعلمك إبراهيم عبد الهادي رئيس وزراء مصر بأنك كنت مع آخرين من الضباط تدربون الجهاز السري للإخوان المسلمين .
فقال جمال عبد الناصر : «أنا لا أسألك عن هذا ولكن أسأل عن مدى صلتك الآن بعبد المنعم عبد الرءوف فقلت له «أنت تعلم أن عبد المنعم عبد الرؤوف هو الذي أدخلني تنظيم الإخوان العسكري وهو الذي أدخلك هذا التنظيم سنة 1943 وتعلم المجهود الذي قام به المرحوم محمود لبيب في تكون التنظيم السري لضباط القوات المسلحة في الفترة من سنة 1943 حتى 15 مايو سنة 1948 .
فقال أنا أعرف ذلك ولكني أريد أن أعرف صلتك ب عبد المنعم عبد الرؤوف بعد الثورة.
فقلت له لا يوجد أي اتصالات بيني وبين عبد المنعم عبد الرؤوف من 15 مايوسنة 1948 حتى الآن.
فبعد حرب فلسطين كان عبد المنعم عبد الرؤوف يخدم في سيناء وكنت أنت فيالقاهرة مدرسا بكلية أركان الحرب فاقتصر اتصالي في الفترة التي أعقبت حربفلسطين عليك ولم أقابل عبد المنعم عبد الرءوف مطلقاً.
فقال وما صلتك ب معروف الحضري فقلت له معروف الحضري من خيرة ضباط الجيش وكان معنا في تنظيم الإخوان قبل حرب فلسطين وفي تنظيم الضباط الأحرار بعد حرب فلسطين واشترك في تنفيذ ثورة 23 يوليو 1952 فقال : أعرف ذلك ولكن هل هناك اتصالات بينك وبينه بعد الثورة فقلت : لا.
ثم سأل جمال عبد الناصر ما مدى صلتك بأبي المكارم عبد الحي فقلت لهالبكباشي أركان الحرب أبو المكارم عبد الحي من خيرة ضبا الجيش وكان زميلا لي في التدريس في الكلية الحربية وهو من الضباط الإخوان الممتازين.
  • ثم سألته ماذا تقصد من هذه الأسئلة؟ ولماذا قمت بحل الإخوان ؟ وهل ما زلت عند اتفاقك الذي عاهدنا الله عليه قبل الثورة في أن الحكم سيكون بكتاب الله عز وجل إن وفقنا الله في الاستيلاء على السلطة في الدولة.
فقال جمال عبد الناصر من جهة الحكم بالقرآن أنا أحكم به من الآن ولكن خطوة خطوة حتى يطيق الناس لأن في البلد أجانب ومسلمين فاسقين والأمر يحتاج إلى ترو وسياسية.
فقال : لأنهم عصاة.
  • فقلت له وما مظاهر عصيانهم؟
قال جمال عبد الناصر أنا طلبت من حسن الهضيبي حاجات رفضها.
فقلت له وما هي هذه الطلبات التي رفضها حسن الهضيبي ؟ فقال عبد الناصر«طلبت منهم الانضمام لهيئة التحرير فرفضوا» فقلت له هم أحرار طالما لا يأتون أعمالا من شأنها الإضرار بالصالح العام. فقال عبد الناصر : لا ليسوا أحرارا ، أنا عايز البلد تنتظم كلها في هيئة سياسية واحدة تمشي وراء أهداف الثورة وبذلك نستطيع تحقيق أهداف الثورة بسرعة وبلا منازعات أو اختلاف في الرأي ، أنا عايز البلد كلها على رأي وفكر واحد هو فكر الثورة . فقلت لعبد الناصر ولكنك في قرار حل الإخوان اتهمتهم بالخيانة لاتصالهم بالإنجليز. فقال جمال اتصالهم بالإنجليز كان بعلمي وبالاتفاق معي ولكني أؤدبهم حتى يخضعوا لإرادتي ونعرف نمشي بالبلد ولا يبقاش في مصر سلطتين أنا عايز سلطة واحدة بس.
فقلت له إذن أنت تتجه بالبلد نحو حكم الفرد المطلق ونحن لم نتفق معك على ذلك وهذا الاتجاه خطير وسيدفع شعب مصر ثمناً فادحا نتيجة لهذا الاتجاه الديكتاتوري.
وقلت له إن طريق الحرية هو الطريق الوحيد لتقدم الشعوب لأن الأمر يجب أن يكون شورى بين المؤمنين كنص القرآن الكريم ، أما حكم الفرد المطلق فسوف يوردنا موارد الهلاك وسألته عن قصة اتصال الإخوان بالإنجليز فقال عبد الناصرلقد طلب الإنجليز الاتصال بالمرشد العام للإخوان المسلمين لاستطلاع رأيه ورأيالإخوان في مشروع المعاهدة المزمع عقدها معهم بشأن جلاء القوات البريطانية عن مصر ورغبة انجلتره في استمرار التحالف مع مصر وعودة القوات البريطانية إلى مصر في حالة الحرب أو خطر الحرب أو قيام حالة دولية مفاجئة.
فاتصل الإخوان ب عبد الناصر وأعلموه بطلب الإنجليز فوافق عبد الناصر على ذلك على أن يوافيه الإخوان بما سوف يدور من حديث بينهم وبين الإنجليز.
وفعلاً أخطر الإخوان عبد الناصر بكل ما دار بين مبعوث السفارة البريطانية ومندوبي الإخوان المسلمين في هذا اللقاء.
ثم عاد عبد الناصر إلى أسئلته المثيرة.
فقلت له الدكتور غراب طبيب في الجيش وجار لي في السكن.
فقلت له خليل نور الدين من دفعتي في الكلية الحربية فقال هل هو منالإخوان ؟
فقلت أعلم أنه من الإخوان .
فقلت: لا أعرفه.
فقال عبد الناصر: «إزاي متعرفوش أنت تكذب علي» فقلت له أنا لا أكذب فقالعبد الناصر «ألم تكن تركب عربة الدكتور غراب مساء الجمعة 15/ 1/ 1954 وكان معك خليل نور الدين و أحمد سبل وتحدثتم في موضوع خطير بخصوصالإخوان فأدركت على الفور أنه كانت هناك رقابة ما وأن عبد الناصر علم بما دار في العربة من حديث وأنه استدعاني لهذا الغرض ولم يخطر ببالي مطلقاً أنه علم بما دار في العربة من أحمد سبل نفسه كما اتضح لي فيما بعد وسأذكره في هذه المذكرات في حينه.
فقلت لعبد الناصر : الحقيقة أنا لا أعرف أحمد سبل مطلقاً وقصصت على عبد الناصر نص حديث أحمد سبل في العربة فقال عبد الناصر : أنا عرفت الموضوع مساء الجمعة 15/ 1/ 1954 عند منتصف الليل وانتظرت حضورك السبت 16/ 1/1954 أو الأحد 17/ 1/ 1954 ولما لم تحضر لتبلغني بما حدث استدعيتك اليوم الاثنين 18/ 1/ 1954 وعدم تبليغك لي يجعلني لا أطمئن إلى مدى ولائك لي ولذلك سأضطر لاعتقالك حتى تنجلي الأمور وضغط عبد الناصر على جرس أمامه فدخل ثلاثة ضباط من الشرطة العسكرية كانوا جاهزين.

إلى المعتقل للمرة الأولى في عهد عبد الناصر

اعتقلت للمرة الأولى في حياتي وللمرة الأولى في عهد جمال عبد الناصر يوم 18يناير سنة 1954 . ورحلت بواسطة الشرطة العسكرية من مكتب جمال عبد الناصرإلى مقر الشرطة العسكرية بباب الحديد حيث وضعت في زنزانة تحت الأرض ثم نقلت يوم 1/ 2/ 1954 إلى سجن الأجانب بباب الحديد.
فوجدت في سجن الأجانب بعض ضباط الجيش المسجونين في قضية رشاد مهنا وأذكر منهم مصطفى راغب محمد و محسن عبد الخالق ووجدت بعض الضباط المعتقلين لكونهم من الإخوان المسلمين أذكر منهم البكباشي عبد المنعم عبد الرؤوف والبكباشي أبو المكارم عبد الحي والصاغ معروف الحضري والصاغجمال ربيع .
وكان يوجد معنا في سجن الأجانب في ذلك الوقت الأستاذ فؤاد سراج الدين .
وفي 23 فبراير 1954 جاءتنا أنباء ونحن في السجن أن مجلس قيادة الثورة قبل استقالة اللواء محمد نجيب ، وقد كان لاستقالة محمد نجيب رد فعل عنيف في الجيش والشعب.
وانقسم الجيش إلى فريقين فريق يؤيد محمد نجيب وتزعم هذا الفريق ضباط من سلاح المدرعات وفريق آخر يؤيد عبد الناصر من سلاحي المدفعية والمشاة.
وكاد هذا النزاع يؤدي إلى حرب أهلية تقتتل فيها قوات مصر المسلحة. ولكنجمال عبد الناصر استجاب للفريق المؤيد ل محمد نجيب نظراً لاندلاع المظاهرات الشعبية من أسوان للإسكندرية تطالب بعودة نجيب وتبين ل عبد الناصر أن نجيب يتمتع بشعبية كبيرة في مصر و السودان حيث قامت مظاهرات مماثلة فيالسودان الشقيق تطالب أيضًا بعودة نجيب.
فقبل عبد الناصر إعادة محمد نجيب إلى رئاسة الجمهورية يوم 27/ 2/ 1954وذلك حتى يملك الوقت الكافي لتهدئة الجو وخداع الضباط الذين أيدوا محمد نجيب ثم ينقض عليهم ويعتقلهم بعد أن يطمئنوا ويتركوا وحداتهم المعتصمين فيها ويذهبوا إلى بيوتهم. وبذلك يستطيع عبد الناصر أن يحقق حلمه في الانفراد بالسلطة.
وما إن علمت جموع الشعوب المصري يوم 28/ 2/ 1954 بعودة محمد نجيبحتى عمت المظاهرات الشعبية جميع مدن مصر وكنت أرى من شباك الزنزانة بسجن الأجانب بباب الحديد جموع المتظاهرين التي ملأت الشوارع وهي تهتف ل محمد نجيب وللحرية والديمقراطية وكان شعب مصر بحسه المرهف يتوجس خيفة من أن تنحرف ثورة 23 يوليو 52 إلى ديكتاتورية عسكرية تحل محل طغيان فاروق.
ولقد نجحت المظاهرات الشعبية واعتصام ضابط المدرعات في ثكناتهم في تثبيت النصر الذي أحرزه محمد نجيب مؤقتا.
ولذا بدا للشعب المصري أن محمد نجيب قد عاد للسلطة وأنه سيجمع كافة السلطات في يده ولكنهم نسوا أمراً هاما جداً.
وذلك الأمر الهام هو أن جمال عبد الناصر كان هو الشخص الوحيد من ضباط الجيش الذي أشرف على تنظيم الضباط الأحرار بعد حرب فلسطين سنة 1948وكان يعرف الضباط الأحرار كلهم تقريباً واحداً واحداً.
واستطاع عبد الناصر أن يأخذ موافقة مجلس الثورة على تعيين عبد الحكيم عامر قائدا عاماً للقوات المسلحة وكان عبد الحكيم عامر هو صديق العمر بالنسبة ل جمال عبد الناصر فاختاره من بين جميع الضباط الأحرار لقيادة القوات المسلحة لأنه موضع ثقته وإن لم يكن أكفأ الضباط الأحرار لتولي هذا المنصب الخطير وقام عبد الناصر و عبد الحكيم عامر بتوزيع أعوانهما على وحدات الجيش المقاتلة ليضمنا السيطرة على القوات المسلحة.
ولما هال جمال عبد الناصر شعبية نجيب عند شعب مصر وعند شعب السودانحاول استمالة الإخوان إليه.
فقرر يوم 25 مارس 1954 الإفراج عن حسن الهضيبي وجميع المعتقلين منالإخوان المسلمين .
وكان للملك سعود رحمه الله الذي كان يزور القاهرة في شهر مارس 1954 دور في هذه المسألة.
فقد صرح عبد الرحمن عزام أمين الجامعة العربية ل جريدة المصري يوم 25مارس 1954 بأن الملك سعود تكلم مع عبد الناصر وقال له إن مصر وهي زعيمة الدول العربية والإسلامية لا يجدر أن يكون الإخوان المسلمون فيها في المعتقلات ولا يباشروا نشاطهم في الدعوة الإسلامية.
وقد زار جمال عبد الناصر حسن الهضيبي في منزله بمنيل الروضة مهنئا بالإفراج عنه في نفس يوم الإفراج.
وأعلن عبد الناصر زوال كل أثر لقرار حل الجماعة الصادر في يناير 1954 (والذي اتهمهم فيه القرار بغير حق بالخيانة والاتصال بالإنجليز من خلف ظهر الثورة ).
وفي يوم 29/ 3/ 1954 سمعنا حركة غير عادية في سجن الأجانب حوالي الساعة 9 مساء ووجدت محمد أحمد سكرتير عبد الناصر يحضر ومعه بعض الضباط المقبوض عليهم تحت حراسة البوليس الحربي وكان عددهم يزيد على 25 ضابطا ولما نظرت فيهم وجدتهم جميعا من ضباط المدرعات. الذين أيدوا محمد نجيبفي فبراير سنة 1954 وأذكر منهم البوزباشي أحمد علي حسن المصري .
وفي أول أبريل سنة 1954 زار سجن الأجانب مدعي المجلس العسكري الذي شكل لمحاكمة عبد المنعم عبد الرؤوف وقد سلم المدعي العسكري عبد المنعم عبد الرؤوف قرار الاتهام وأقوال الشهود في قضيته.
ودخل عبد المنعم عبد الرؤوف زنزانتي ومعه كومة من الأوراق فلاحظت أن الأوراق كثيرة جدا وبها أقوال عدد كبير جدا من الشهود ، فاستغربت وتبين لي من فحص الأوراق أن المدعي قد أخطأ وسلم عبد المنعم عبد الرؤوف أقوال شهود لا دخل لهم في قضيته ومما استرعى نظري في هذه الأوراق أقوال الصاغأحمد سبل .
أقوال الصاغ أحمد سبل :
قال أحمد سبل «قبل الثورة كنت أعمل في سلاح المهمات مع خليل نور الدينومع أحمد أنور قائد البوليس الحربي بعد الثورة وبعد قيام الثورة طلبت من أحمد أنور أن يتوسط لي لنقلي إلى سلاح المدفعية لأنه سلاحي الأصلي ففعل وبعد حل الإخوان في 14/ 1/ 1954 استدعاني أحمد أنور قائد البوليس الحربي وقال سأكلفك بمهمة خطيرة وهي أنا عارف إنك صديق الصاغ خليل نور الدين ويتذاكر معه لكلية الحقوق وهو يثق فيك ونحن نعلم أن خليل نور الدين من الإخوان المسلمين فهو لا يخفي ذلك.
فاذهب إليه واعرض عليه الاشتراك في خطة تقول فيها إن معك آلاي مدفعية به 12 ضابطا من الإخوان المسلمين ثائرون لحل جماعة الإخوان ومستعدون لأي عمل يطلب منهم.
وتطلب منه أن يعرفك بضباط آخرين من المدرعات أو المشاة ليشتركوا معا في خطة لتخليص الإخوان من الاعتقال. وبذلك نستطيع أن نعرف عن طريق خليل نور الدين أسماء أكبر عدد ممكن من الضباط الإخوان فنقبض عليهم ونتخلص منهم دفعة واحدة.
فقابلت خليل نور الدين صدفة في ميدان الأوبرا مساء يوم الجمعة 15/ 1/ 1954وركبت معه السيارة من ميدان الأوبرا وكان بها الدكتور غراب والصاغ حسين حمودة .
وتحدثت مع خليل نور الدين في ضرورة عمل شيء إيجابي لإنقاذ الإخوانالمعتقلين وقلت له إن معي آلاي مدفعية به 12 ضابطا كلهم من الإخوان المسلمينوإذا كان عندكم ضباط من المشاة أو المدرعات يبقى الوضع أفضل.
ولم أستطع أن أحصل منهم على أسماء ونزلت من العربة عند منزلي في شارعمصر و السودان اتصلت تليفونيا بمنزل جمال عبد الناصر الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ليلة 15- 16 يناير 1954 فرد علي أحمد أنور حيث كان موجودا بمنزل عبد الناصر فقلت له ما دار من حديث بالعربة الخاصة بالدكتور غراب.
ولما تبين لي بعد الاطلاع على أقوال أحمد سبل بطريق المصادفة البحتة أن المؤامرة وهمية وأنها كانت فخا من أحمد أنور قائد البوليس الحربي للفتك بالضباط الإخوان وأن أحمد أنور قد فعل ذلك تقربا من جمال عبد الناصر بعد أن آلت إليه سلطة الدولة تعجبت من الناس وأحوالهم وقلت لأخي عبد المنعم عبد الرءوف انظر إلى أي مدى ينحدر الإنسان.
وتوقعت تبعا لذلك ألا أقدم للمحاكمة لعدم وجود اتهام أصلا فالمؤامرة التي اعتقلت بسببها كانت مؤامرة وهمية دبرها أحمد أنور وكانت وسيلته في ذلك استخدام الصاغ أحمد سبل للإيقاع بصديقه خليل نور الدين وإيهامه بوجود قوة من الضباط جاهزين لعمل إيجابي لإنقاذ الإخوان من السجن الحربي.
وفي يوم 28/ 4/ 1954 رحلت أنا و عبد المنعم عبد الرؤوف و معروف الحضريوأبو المكارم عبد الحي و جمال ربيع إلى السجن الحربي بمعتقل 2 فوجدت هناك القائمقام محمد رشاد مهنا وصي العرش السابق يقضي مدة العقوبة التي حكم مجلس الثورة بها عليه وهي السجن المؤبد.
ورشاد مهنا كان من الضباط الممتازين الذين يتمتعون بشعبية كبيرة بين ضباط الجيش وبخاصة في سلاح المدفعية.
وبمجرد قيام الثورة وخلع فاروق اختار مجلس الثورة رشاد مهنا ضمن أعضاء مجلس الوصاية على العرش. وكان الغرض من ذلك هو إبعاد رشاد مهنا عن الجيش.
ولقد انتهز جمال عبد الناصر فرصة خلاف نشب بين محمد نجيب بصفته رئيسا للوزراء ورشاد مهنا بصفته وصيا على العرش حول مشروعات القوانين التي تصدرها الثورة .
وكان ل رشاد مهنا رأي خاص في هذه المشروعات يتلخص في ضرورة أخذ رأي مجلس الوصاية على العرش قبل إصدارها فأشاع عبد الناصر بين ضباط الجيش أن رشاد مهنا يريد أن يصبح ملكا وأن يستبد بالحكم وأن يرث فاروق وأسرةمحمد علي .
واستطاع عبد الناصر أن يوغر صدر محمد نجيب وصدور زملائه أعضاء مجلس الثورة ضد رشاد مهنا فقبضوا عليه وعلى الضباط المعروفين بولائهم ل رشاد مهناوحوكموا أمام مجلس الثورة الذي أصدر حكمه بالسجن المؤبد على رشاد مهناوزملائه الضباط الموالين له ولم تكن هناك تهمة معينة أو جريمة ارتكبها رشاد مهنا ولكن ذلك كان منطق عبد الناصر في التخلص ممن توهم مزاحمته في أمله الخاص بالانفراد بحكم مصر فتخلص من منافسيه بلا أي وازع من ضمير.
ووجدت ضمن المعتقلين القائمقام يوسف منصور صديق الذي اقتحم رئاسة الجيش ليلة الثورة واعتقل حسين فريد رئيس هيئة أركان حرب الجيش ومن كان معه من الضباط ولولا يوسف صديق ما نجحت الثورة ولكان مصيرها الفشل المحتوم ووجدت ضمن المعتقلين بالسجن الحربي القائمقام أحمد شوقي قائد الكتيبة الثالثة عشرة المشاة والتي قامت بتنفيذ الثورة في مدينة القاهرة ليلة 23/7/ 1952 بقيادته.
فتعجبت أشد العجب وقلت في نفسي أبلغت خيانة عبد الناصر إلى هذا الحد الذي لا يمكن أن يتصوره إنسان ف يوسف منصور صديق الذي اقتحم رئاسة الجيش ليلة الثورة وأحمد شوقي الذي قاد الكتيبة 13 ليلة الثورة وحسين محمد أحمد حمودة الذي أنشأ معتقل الثورة ليلة 23 يوليو 1952 بالكلية الحربية يكون جزاؤهم هو جزاء سنمار فيوضعوا في السجن ويتحكم في مقدرات شعب وجيش مصر مدخولو الضمائر.
و رشاد مهنا يحكم عليه بالسجن المؤبد وهو الذي اختارته الثورة وصيا على العرش بعد نجاحا ورشاد مهنا كان ضابطا مثاليا في كل شيء في خلقه وتدينه وعلمه ووطنيته وعقليته الفذة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد أخبرني يوسف منصور صديق وأنا معه في الاعتقال بالسجن الحربي أنجمال عبد الناصر كان عضوا في خلية شيوعية تابعة للحركة الديمقراطية للتحرر الوطني والمعروفة باسم «حدتو» وذلك قبل ثورة 23/ 7/ 1952 وكان بهذه الخليةأحمد فؤاد وكيل النيابة والذي شغل منصب رئيس بنك مصر لمدة طويلة بعد الثورة فلما أبديت دهشتي لهذه المعلومات التي أسمعها لأول مرة عن جمال عبد الناصر ، قال يوسف صديق لماذا لا تصدقني ، قلت لأن جمال عبد الناصر منالإخوان المسلمين وكان عضوا في التنظيم السري ل جماعة الإخوان المسلمينمعي منذ عام 1943 ، فكيف أصدقك لأن الإنسان لا يمكن أن يكون مسلما وكافرا في وقت واحد إلا إذا كان منافقا. ثم قلته إذا كان عبد الناصر ماركسيا كما تدعي فلماذا يزج بالماركسيين في السجن؟ فرد يوسف صديق قائلا وإذا كان جمال عبد الناصر حسين إخوانيا كما تدعي فلم يزج ب الإخوان في السجن؟ وفي هذه الأثناء مر حمزة البسيوني قائد السجن الحربي وسأل مش عايزين أي خدمة؟
فقال له يوسف صديق : خذ هذه القصيدة وسلمها ل جمال عبد الناصر ، فأخذهاحمزة البسيوني وانصرف فقلت ل يوسف صديق ما الذي كتبته في هذه القصيدة؟
فقال يوسف صديق شتيمة في عبد الناصر فقلت وما هي فأحضر يوسف مسودة القصيدة وتلاها علي وأذكر منها بيتا واحدا لا يزال عالقا بذهني حتى يومنا هذا وهو :
أفرعون مصر وجبارها
صحا لها من وراء القرون
وتناقشت مع يوسف صديق حول هوية عبد الناصر ومعتقداته هل هو ماركسي أم إسلامي؟
فقال يوسف صديق ما كان عبد الناصر إسلاميا ولا كان ماركسيا ولكن كان كفرعون موسى الموسوم في سور القرآن بالضلال والظلم والطغيان.
وفرعون موسى له مذهب في الحكم يقوم على الحكم الفردي المطلق والطغيان وتأليه الحاكم.
وقد بين القرآن الكريم ما في هذا النظام الفرعوني من فساد فقال تعالى : ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر 11- 14].
بقينا في السجن الحربي وكانت المعاملة حسنة جدا والزنزانات مفتوحة طول النهار والطعام يحضر لنا من بيوتنا بعربة السجن الحربي والجرائد تصلنا بانتظام والاتصال التليفوني بعائلاتنا مسموح به وقائد قسم القاهرة يمر علينا يوميا ويسأل عن طلباتنا ويزورنا طبيب يوميا.
وكان حمزة البسيوني يلعب معنا الطاولة وبقينا في السجن الحربي إلى أن جاء يوم ذهب عبد المنعم عبد الرءوف إلى المحاكمة ولم يعد وتبين أنه هرب من حارسه العميد محمد نبيه خطاب .
وبعد هرب عبد المنعم عبد الرءوف ضيقوا علينا الخناق وصار كل واحد منا يقضي 24 ساعة في الزنزانة الانفرادية لا يتصل بمخلوق ولا يتكلم مع أحد وفي 29/ 6/ 1954 صدرت الأوامر بالإفراج عني وعن أبو المكارم عبد الحي و معروف الحضري و جمال ربيع أي عن الضباط الذين اعتقلوا بمقولة إنهم ينتمون ل جماعة الإخوان المسلمين .
  • ماذا بعد الإفراج عني يوم 29/ 6/ 1954 ?
ذهبت يوم 30/ 6/ 1954 إلى اللواء السابع المشاة بالعباسية لاستلام عملي فأفهمني قائد اللواء الأميرالاي السرساوي أني في إجازة إجبارية منذ اعتقالي في 18/ 1/ 1954 فذهبت للقيادة العامة للقوات المسلحة وقابلت الصاغ صلاح نصر مدير مكتب عبد الحكيم عامر فأفادني أنه لم يبت في أمري بعد وعلي البقاء في الإجازة الإجبارية لحين التصرف في شأني بمعرفة المسئولين في قيادة القوات المسلحة.
فذهبت لمنزل زكريا محي الدين وزير الداخلية وكان يسكن في ذلك الوقت بمنشية البكري بعمارة رشاد بشارع الخليفة المأمون ، فقابلني في منزله وقال إن النية قد اتجهت لتحويلي إلى وظيفة مدنية.
وظللت في منزلي في انتظار قرار من المسئولين بشأن عملي المقبل حتى يوم 26/ 10/ 1954 وهو اليوم الذي أذاعت فيه الحكومة المصرية بيانا يفيد أن شابا ينتمي إلى الإخوان المسلمين حاول قتل جمال عبد الناصر بأن أطلق عليه 8 رصاصات في ميدان المنشية ب الإسكندرية فلم يصب بسوء.

إلى المعتقل من جديد

اعتقلت يوم 19/ 10/ 1954 للمرة الثانية في عهد جمال عبد الناصر ووضعت في زنزانة بمعتقل 2 بالسجن الحربي وأثناء دخولي الزنزانة كان القائمقام يوسف منصور صديق عائدا من دورة المياه إلى الزنزانة فقال لي «جيت له يا حسين ده فيه ضرب وتعذيب حتى الموت».
وإنه لأمر شديد القسوة على النفس أن يتحدث الإنسان عن مهانة تعرض لها ولكن رواية الحقيقة للتاريخ قد تمنع تكرار هذه الجرائم في سجون مصر مستقبلا.

التعذيب والقتل في سجون عبد الناصر. فى التدوينة القادمة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق