تمثل الهجرة إلى الحبشة للمرة الثانية في تاريخ المسلمين جولة من جولات
الصراع بين الحق والباطل بكل تفاصيلها، فلجوء أهل الإيمان للهجرة إلى مكان
آمن، ولحاق أهل الباطل بهم وملاحقتهم لهم من نماذج ذلك الصراع الباقي ببقاء
الإسلام والكفر.
ليست الهداية أمراً يمتلكه البشر، حتى الرسل، ولكنها شيء بيد الله تعالى، وذلك ما يتجلى في إسلام رجل شديد على المؤمنين قبل إسلامه كعمر بن الخطاب، وقد كان إسلامه مع حمزة رضي الله عنهما نصراً للمسلمين، مكنهم من الجهر بدينهم، والوقوف موقف الند ممن كان يضطهدهم ويعذبهم، وذلك مما حدا بأهل مكة إلى اتخاذ قرار حصار الشعب بصحيفة ظالمة علقت في جوف الكعبة، واستمر ذلك الحصار ثلاث سنوات لم تضعف للمؤمنين فيه عزيمة، بل ازدادوا صلابة وشدة في دين الله.عمر قبل الإسلام
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس العاشر من دروس السيرة النبوية.
تكلمنا من قبل عن الهجرة الثانية إلى الحبشة، وعن استقرار المسلمين فيها، وعن الانتصار الكبير الذي حققه المسلمون على عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة أمام النجاشي رضي الله عنهم.
ثم ذكرنا قصة إسلام حمزة رضي الله عنه، وكيف كان إيمانه إضافة عظيمة للصف المسلم، ثم بعد ثلاثة أيام فقط من إيمان حمزة آمن رجل آخر، آمن عظيم سيغير الله عز وجل به وجه الأرض وحركة التاريخ، وسيزلزل به عروش ملوك الأرض في زمانه كسرى وقيصر وغيرهما، هذا المؤمن الجديد هو عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه.
منذ أول لحظات إيمانه وحتى آخر لحظات حياته رضي الله عنه وأرضاه وهو فاروق.
كانت قصة إسلامه أعجب من قصة إسلام حمزة رضي الله عنه، فـ حمزة رضي الله عنه خلال السنوات الست التي سبقت إسلامه كان بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وبالنسبة للمؤمنين لا معهم ولا عليهم، أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان تاريخه مع المسلمين كله قسوة وعنفاً.
كان عمر مثل حمزة رجل مغمور في التاريخ ككل رجال قريش قبل أن يسلموا، نعم كانت له سفارة قريش، كان مسموع الكلمة في قبيلته بني عدي وفي قريته مكة، لكن في النهاية ما هي قبيلة بني عدي، وما هي مكة بالنسبة للعالم قبل الإسلام؟ ما هي مكة بالنسبة لفارس والروم والحبشة ومصر والصين والهند؟ مجموعة من القبائل البدوية البسيطة تعيش وسط الصحراء على الرعي والتجارة وبيع الأصنام.
هؤلاء هم أهل مكة قبل الإسلام، وكان عمر مثله مثل آلاف أو ملايين أو بلايين الرجال الذين مروا في التاريخ الذين لم يسمع بهم أحد قبل ذلك ولا بعد.
وعمر فوق ذلك كله كانت فيه قسوة على المسلمين قبل إسلامه، كان يعذب جارية له أسلمت من أول النهار إلى آخره، ويقول: والله ما تركتها إلا ملالة.
يعني: ضجرت من كثرة الضرب والتعذيب.
شعرت زوجة عامر بن ربيعة رضي الله عنها برقة في كلام عمر، لما رآها تجهز نفسها لهجرة الحبشة الأولى، قال لها كلمة رقيقة، قال لها: صحبكما الله.
وهي غير معتادة منه على هذه الرقة، فقالت لزوجها في ذلك، فقال لها: أطمعت في إسلامه؟ قالت: نعم، قال: فلا يسلم الذي رأيت -يعني: عمر بن الخطاب - حتى يسلم حمار الخطاب، يأس كامل في إسلام عمر.
يرى عامر أن فرصة إسلام حمار الخطاب أكبر من فرصة إسلام عمر، إلا أن نظرة المرأة كانت أدق من نظرة الرجل، ورأت بقلبها ما لم يره زوجها بعقله.
كان عمر يعيش في صراع نفسي بين أن يكون زعيماً قائداً في مكة، وبين أن يكون تابعاً لأمر هذا الدين، فقلبه يقول له: لعل هؤلاء على الحق، فرئيسهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم تكن حوله أي شبهات، فهو الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، لكن عقله يقول له: أنت سفير قريش وقائد من قوادها، والإسلام سيضيع عليك كل هذا، قسم الإسلام مكة نصفين: نصفاً يؤمن به، والنصف الثاني يحاربه، ومنذ ستة أعوام ونحن في صراع وخلافات ومناظرات ومحاورات، وقد عشنا مئات السنين نعبد الآلهة دون اعتراض من أحد أو تخطئة، فلماذا محمد صلى الله عليه وسلم تجرأ وخطأنا؟ صراع شديد يدور في نفس عمر، فقلبه في طريق وعقله في طريق آخر، وأصدقاء السوء كثر في مكة، وكلهم يزينون له المنكر، في النهاية شعر بكراهية شديدة للرسول صلى الله عليه وسلم الذي وضعه في مثل هذا الصراع النفسي الرهيب، فقد عاش عمر لا يعرف التردد، وهو الآن يريد أن يخلص نفسه ومكة من الرجل الذي كان سبباً في كل هذه المشاكل، أراد أن يحسم القضية كطبعه دائماً؛ لذا قرر أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يفعل الذي فكرت فيه قريش ولم تستطع فعله، أتى القرار في ذهنه في لحظة، ومحاولة التنفيذ كانت في اللحظة الثانية مباشرة.
وكان مما زاد الأمر حماسة أن أبا جهل من يومين فُضح فضيحة غير مسبوقة في مكة، والذي فضحه حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمزة يدعي بأنه قد أصبح على دين محمد صلى الله عليه وسلم، وأبو جهل خال عمر بن الخطاب.
فهذه المشاكل كلها بسبب محمد صلى الله عليه وسلم، وعمر أصيب في كرامته كما أصيب أبو جهل،لحظات إسلام الفاروق
خرج عمر من بيته متوشحاً سيفه، خرج ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، ظل يبحث في كل مكان عن الرسول وهو لا يدري أين يجلس، ودار الأرقم بن أبي الأرقم لم يكن يعرفها أحد، وفي أثناء بحثه قابله نعيم بن عبد الله رضي الله عنه، ولكن لم يكن أحد يعلم بإسلامه، وهو من نفس قبيلة عمر من بني عدي، وكان واضحاً من عمر أنه في قمة الغضب، فقال له نعيم: أين تريد؟ فقال له في منتهى الصرامة والجدية: أريد محمداً، هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسفه آلهتها فأقتله! كان نعيم رضي الله عنه يعلم أبعاد هذه الكلمات، ولا يوجد لديه وقت لتنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يفكر كثيراً، ووجد نفسه مضطراً إلى كشف سر إسلام أخت عمر بن الخطاب السيدة فاطمة بنت الخطاب وإسلام زوجها سعيد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، حتى وإن كان عمر سيقتلهما، ولكنه في المقابل سيجد الوقت الكافي ليبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يأخذ حذره.
فـ نعيم كان يظن أن هذا هو الحل الوحيد الذي قد يصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن مراده؛ لأنه لو أخبره عن إسلام أي شخص آخر لن يهتم، ولكن إسلام أخته وزوجها شيء يطعن في كرامة عمر رضي الله عنه، قال نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟ يخوفه من بني عبد مناف، فربما تنفع، ثم قال له: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم.
يعني: اذهب إلى أهل بيتك أولاً وابدأ بهم ثم التفت إلى محمد.
فصرخ عمر في فزع: أي أهل بيتي؟ فقال: ابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما، وتابعا محمداً على دينه، فعليك بهما.
فشعر عمر أن الدماء تغلي في قلبه، ونسي كل شيء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فذهب مسرعاً إلى بيت أخته، وذهب نعيم مسرعاً إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه.
في هذا الوقت كان خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه يجلس مع سعيد بن زيد وزوجته في بيتهما يعلمهما القرآن؛ فالرسول كان يقسم الصحابة إلى مجموعات، كل مجموعة تقوم بمدارسة القرآن مع بعضها، ثم يجتمعون كلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
وكان خباب بن الأرت هو المعلم لـ سعيد وزوجته.
وصل عمر إلى بيت أخته ووضع أذنه على الباب فسمع صوتهم وهم يقرءون القرآن، فظل يضرب الباب بكل قوته، ولو كان يستطيع كسره لكسره، وهو ينادي بعنف: افتحوا الباب افتحوا الباب.
وإذا كان عمر مرعباً في هدوئه فما بالك في غضبه، أما خباب فاختبأ في غرفة داخلية، وقال في نفسه: لئن نجا سعيد بن زيد وفاطمة بنت الخطاب فلن أنجو أنا، وخباب من الموالي ديته بسيطة، وعمر لن يفكر كثيراً قبل أن يقتله.
بعد اختباء خباب أصبح الدور على سعيد وفاطمة.
قام سعيد رضي الله عنه وفتح الباب، فدخل عمر إلى البيت وهو يحترق من الغضب، قال عمر: لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، ثم بدأ يضرب سعيداً فقامت فاطمة بنت الخطاب ووقفت بينه وبين سعيد تدافع عن زوجها، فالتفت إليها عمر وترك سعيد بن زيد وبدأ يضربها حتى سالت الدماء على وجه فاطمة رضي الله عنه، لما رأى سعيد هذا الأمر لم يجد بداً من الهجوم على الأمر، وقال له في تحدٍ شديد: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك! استغرب عمر من شجاعة سعيد؛ فلا يوجد في مكة من يكلمه بهذه الطريقة، وأعجب من هذا أن فاطمة المرأة الضعيفة البسيطة وقفت وأمسكت بوجه عمر، وقالت له في قوة: وقد كان ذلك على رغم أنفك يا عمر)، ذهل عمر.
من هذا الذي يتحدث؟ أليست هذه أخته؟ ما الذي جرأها عليه؟! أحس عمر على بأسه وشدته وسطوته أنه صغير لا يستطيع أن يقف أمامها، وشعر أن الدنيا تغيرت وهو لا يعلم، أول مرة يتعرض لمثل هذا الموقف في حياته، ثم قال عمر كلمة تدل على رقة قلبه التي تختفي وراء هذه الغلظة الظاهرة، قال: فاستحييت حين رأيت الدماء.
الرجل الذي ليس فيه خير لا يستحي من رؤية دماء تسيل على وجه امرأة خرجت عن دينه،عمر بعد الإسلام
ولد عمر من جديد، كما ولد حمزة عملاقاً، فإن عمر أيضاً ولد عملاقاً.
ولد عمر فقيهاً حازماً مضحياً، فأول كلمة قالها بعد الإسلام كانت: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: ففيم الاختفاء؟! وانتبه لما يقول: ألسنا على الحق؟ لا يقول: ألستم على الحق؟ فقد أصبح مسلماً، ويقترح عليهم آراء ويفكر لخدمة الدين، وينظر ما هو الأصلح، ويتحرك للدعوة، هذا هو عمر.
الاختفاء كما هو معلوم كان لأسباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يحسب كل شيء بدقة، يأخذ بكل الأسباب، أما الآن فعلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعيد حساباته مرة أخرى؛ لأن الوضع تغير من ثلاثة أيام مضوا، إن كان للاختفاء مزايا قبل ذلك فللإعلان أيضاً مزايا، فإيمان حمزة وعمر غير الوضع، والرسول صلى الله عليه وسلم وافق على الإعلان؛ لأن اثنين من رجال المسلمين غيرا مسار الدعوة بكاملها.
في هذه الفترة الحرجة سيبدأ إعلان الإسلام في مكة، ويظهر المسلمون الشعائر أمام الناس في مكة.
غير الرسول صلى الله عليه وسلم كل المرحلة عندما دخل حمزة وعمر في الدين، أخذوا القرار وخرجوا في نفس اللحظة في صفين: عمر على أحدهما، ولم يؤمن إلا منذ دقائق، وحمزة على الآخر، وما آمن إلا منذ ثلاثة أيام فقط.
سارت الكتيبة العسكرية الإسلامية من دار الأرقم إلى المسجد الحرام أكثر الأماكن ازدحاماً في مكة، حتى يراهم أكبر عدد من قريش، رأت قريش المسلمين وأمامهم حمزة وعمر فأصابتهم كآبة شديدة، يقول عمر: (فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق يومئذ.
نظر عمر إلى المسجد الحرام فلم يجد أبا جهل مع الناس، وهو أشدهم محاربة للإسلام، فقرر أن يذهب إليه في بيته، ويعلن له أمر إسلامه.
يقول عمر: فأتيته حتى ضربت عليه بابه، فخرج إلي وقال: مرحباً وأهلاً يا ابن أختي، فقال عمر: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به، قال عمر: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به، لكن عمر كان سعيداً؛ لأنه كاد لـ أبي جهل.
وكان عمر يرى أنه ما زال هناك كثر لم يعلموا بعد بأمر إسلامه، ولن يذهب إلى كل واحد في بيته يخبره، فذهب لرجل اسمه جميل بن معمر الجمحي، وهو كما يقول سيدنا عمر أنقل قريش لحديث.
يعني: مثل وكالات الأنباء، لا يستطيع حفظ السر، لا يسمع شيئاً إلا ونقله للناس، فذهب سيدنا عمر إليه، وقال له: يا جميل! لقد أسلمت، فنادى جميل بأعلى صوته قائلاً: إن ابن الخطاب قد صبأ، يعني: ارتد، لكن سيدنا عمر جرى وراءه، وقال له: كذبت ولكني أسلمت.
المهم أن كل مكة علمت أن عمر قد دخل في دين الإسلام، وهذا هو المطلوب.ردة فعل أهل مكة بعد إسلام عمر وحمزة ومساومتها للرسول
اجتمع أهل مكة حول سيدنا عمر بن الخطاب وقاموا بضربه، فظل يضرب وهم يضربون حتى تعب رضي الله عنه وأرضاه وجلس على الأرض، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.
يعني: اصبروا علينا حتى نصل إلى ثلاثمائة، وهذا الرقم الذي قاله هو عدد المسلمين في غزوة بدر.
فـ عمر من أول يوم أسلم فيه ضرب، وكأن الله سبحانه وتعالى يعرفه طريق الدعوة وهو لا يزال في أول أيام إسلامه، كل الناس التي تحملت هم الدعوة تعبوا، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة! ومع أن عمر ضُرب في أول يوم من إسلامه إلا أن هذه كان ردة فعل استثنائية نتيجة للمفاجأة، ثم إن مكة رجعت للصواب فـ عمر تخاف منه الناس، ويؤكد على ذلك كلام صهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه، يقول: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقاً، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به.
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
ومع أن وضع المسلمين تحسن بهذه الصورة، وأصبح أهل الإسلام يظهرون عباداتهم وشرائعهم في مكة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلن الحرب على قريش، ولم يبدأ في مواجهة عنترية مع صور الباطل في مكة، وما زالت الأصنام منتشرة في مكة، بل ما زالت الرايات الحمر للزانيات مرفوعة في مكة، والخمور تشرب، والمشركون يعبدون آلهة غير الله عز وجل، والقتال ممنوع على المسلمين، وهذا من فقه المرحلة.
ربما يتحمس الشباب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوة والسلاح والعنف، يظنون أنهم في زمن التمكين والسيادة، وينسون أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كف عن كل هذا في فترة مكة.
الجرأة لو حصلت من شباب المسلمين في فترة مكة على المشركين لا تعد شجاعة ولا جهاداً إنما تعد تهوراً وتسرعاً وجهلاً بفقه المرحلة، وميزان المسلمين ثقل بـ حمزة وبـ عمر لكن بحساب.
وهي رسالة إلى كل المتحمسين من الشباب، ممن يعيشون ظروفاً مشابهة لظروف مكة، وأيضاً من غير حمزة وعمر، ومع ذلك يحدث تهور واندفاع، أقول لهم: كم تخسر الدعوات من حماسة في غير موضعها تماماً، كما تخسر من روية في غير موضعها.
إذاً: كان وضع المسلمين التعذيب، ولا يوجد قتال، وأيضاً لا توجد مواجهة مع المشركين في مكة، مع كون قوتهم زادت؛ لأن هناك الكثير في مكة سيفكر في الإسلام، وسوف يتحفزون بإسلام حمزة وعمر؛ ولأن المسلمين أعلنوا إسلامهم وبدءوا بالصلاة وقراءة القرآن أمام الناس، ومكة بدأت تنظر إلى حلاوة الإسلام وشرائعه.
وأهل الباطل كانوا في موقف صعب، وكأن الموضوع سيخرج من أيديهم، فالدعوة تتسلل وتدخل إلى كل بيت حتى بيوت الزعماء منهم، فماذا صنعوا؟ عقد أهل مكة اجتماعاً على مستوى القادة والزعماء، وحضره كل زعماء مكة، وتقدم عتبة بن ربيعة -زعيم بني أمية، وأحد حكماء قريش باقتراح، قال: يا معشر قريش! ألا أقوم إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا.ردة فعل أهل مكة بعد إسلام عمر وحمزة ومساومتها للرسول
اجتمع أهل مكة حول سيدنا عمر بن الخطاب وقاموا بضربه، فظل يضرب وهم يضربون حتى تعب رضي الله عنه وأرضاه وجلس على الأرض، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.
يعني: اصبروا علينا حتى نصل إلى ثلاثمائة، وهذا الرقم الذي قاله هو عدد المسلمين في غزوة بدر.
فـ عمر من أول يوم أسلم فيه ضرب، وكأن الله سبحانه وتعالى يعرفه طريق الدعوة وهو لا يزال في أول أيام إسلامه، كل الناس التي تحملت هم الدعوة تعبوا، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة! ومع أن عمر ضُرب في أول يوم من إسلامه إلا أن هذه كان ردة فعل استثنائية نتيجة للمفاجأة، ثم إن مكة رجعت للصواب فـ عمر تخاف منه الناس، ويؤكد على ذلك كلام صهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه، يقول: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقاً، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به.
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
ومع أن وضع المسلمين تحسن بهذه الصورة، وأصبح أهل الإسلام يظهرون عباداتهم وشرائعهم في مكة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلن الحرب على قريش، ولم يبدأ في مواجهة عنترية مع صور الباطل في مكة، وما زالت الأصنام منتشرة في مكة، بل ما زالت الرايات الحمر للزانيات مرفوعة في مكة، والخمور تشرب، والمشركون يعبدون آلهة غير الله عز وجل، والقتال ممنوع على المسلمين، وهذا من فقه المرحلة.
ربما يتحمس الشباب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوة والسلاح والعنف، يظنون أنهم في زمن التمكين والسيادة، وينسون أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كف عن كل هذا في فترة مكة.
الجرأة لو حصلت من شباب المسلمين في فترة مكة على المشركين لا تعد شجاعة ولا جهاداً إنما تعد تهوراً وتسرعاً وجهلاً بفقه المرحلة، وميزان المسلمين ثقل بـ حمزة وبـ عمر لكن بحساب.
وهي رسالة إلى كل المتحمسين من الشباب، ممن يعيشون ظروفاً مشابهة لظروف مكة، وأيضاً من غير حمزة وعمر، ومع ذلك يحدث تهور واندفاع، أقول لهم: كم تخسر الدعوات من حماسة في غير موضعها تماماً، كما تخسر من روية في غير موضعها.
إذاً: كان وضع المسلمين التعذيب، ولا يوجد قتال، وأيضاً لا توجد مواجهة مع المشركين في مكة، مع كون قوتهم زادت؛ لأن هناك الكثير في مكة سيفكر في الإسلام، وسوف يتحفزون بإسلام حمزة وعمر؛ ولأن المسلمين أعلنوا إسلامهم وبدءوا بالصلاة وقراءة القرآن أمام الناس، ومكة بدأت تنظر إلى حلاوة الإسلام وشرائعه.
وأهل الباطل كانوا في موقف صعب، وكأن الموضوع سيخرج من أيديهم، فالدعوة تتسلل وتدخل إلى كل بيت حتى بيوت الزعماء منهم، فماذا صنعوا؟ عقد أهل مكة اجتماعاً على مستوى القادة والزعماء، وحضره كل زعماء مكة، وتقدم عتبة بن ربيعة -زعيم بني أمية، وأحد حكماء قريش باقتراح، قال: يا معشر قريش! ألا أقوم إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا.
وهي أمور مغرية، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي سيختار، وهذا يمثل تنازلاً خطيراً من زعماء قريش، يفسر الوضع الذي أصبحت فيه مكة بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، ومع أن هذا على غير هوى المعظم، إلا أنهم وافقوا مضطرين، قالوا: بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه.
ذهب عتبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فوجده جالساً لوحده بجانب البيت الحرام، فتلطف معه وابتسم وقعد وبدأ يتكلم، وكان ذكياً، وكلامه في عرف كل الناس لا يرفض، قال عتبة: يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمت من الثقة في العشيرة، والمكان في النسب.
يعني: مكانتك عندنا كبيرة، ونحن نحبك ونحترمك، وهذه طريقة ثعبانية مشهورة عند عتبة وعند أمثال عتبة.
ثم بدأ يذكر مراده، فقال: ومع مكانتك العالية إلا أنك عملت أشياء تعتبر في عرف مكة جرائم عظمى، فأنت متهم بكذا وكذا وكذا، وهذا شيء خطير وموقفك صعب! قال له: إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم.
يعني: أنت متهم بزعزعة نظام الحكم في مكة، فاترك الدين لأهله من الكهان وسدنة الأصنام، وإلا فإن مستقبلك في خطر، وأنت لك مكانة، وعندك أولاد، ونحن نريد مصلحتك ونحبك، ولأننا نحبك سنعرض عليك كذا وكذا من الاقتراحات فاختر منها ما يعجبك ونحن تحت أمرك.
إذاً: بهذه المقدمة الثعبانية يقدم له الاقتراحات المغرية، ويبين له أن رفضها معناه تأكيد هذه التهم الخطيرة في حقك، وأما عقابها فأنت تعلمه.حصار الشعب
بعد هذا الانهيار الكامل للمباحثات بدا وكأن حدثاً كبيراً سيقع، كان أبو طالب يراقب الموقف، ويرى أن قريشاً لن تسكت على هذا الذي حدث، وكان يخشى أن أحداً من سفهاء قريش يتهور ويذهب لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يحبه أكثر من أولاده؛ لذا لم يجد إلا حلاً واحداً، قام أبو طالب بسرعة ودعا بني عبد مناف بشقيها بني هاشم وبني المطلب- المطلب هو عم عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم- وطلب منهم أن يجتمعوا لحماية محمد صلى الله عليه وسلم، فأجاب جميع القوم مسلمهم وكافرهم حمية وقبلية وطاعة لكبيرهم أبي طالب، وبذلك انقسمت مكة إلى نصفين: بني عبد مناف في جهة، وبقية أهل مكة في جهة أخرى، وإذا كان أبو طالب يخاف من زعماء مكة، فأيضاً زعماء مكة يخافون من المسلمين، ولا قدرة لهم بهم بعد إسلام حمزة وعمر، فـ حمزة من فرسان قريش الأشداء، وعمر سفير مكة الرسمي، وبنو عبد مناف اتحدوا من أجل حماية الرسول صلى الله عليه وسلم، والطرق السلمية لم تعد تنفع، وفي نفس الوقت لا طاقة لهم بقتال الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من بني عبد مناف؛ لذا اجتمع كفار قريش من جديد وخرجوا بفكرة جديدة في حرب الدعوة وهي المقاطعة، سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، سياسة التجويع الجماعي لبني عبد مناف، سواء كانوا مسلمين أو كفاراً.
ومع العلم أن هذا القانون الجديد يعتبر مخالفاً لأعراف مكة وقوانينها السابقة، لكن لا توجد مشكلة في أن يتغير الدستور، فكل شيء بأيديهم، فلا يهم الشهر الحرام ولا البلد الحرام، المهم المصالح فهي ما يقدم على الأعراف والقوانين، فلا مبدأ، ولا قانون ولا حتى عهد يُحترم.
كتبوا قانون المقاطعة، وفيه: على أهل مكة بكاملها في علاقتهم مع بني عبد مناف ألا يناكحوهم.
أي: لا يتزوجوا منهم ولا يزوجهم.
وألا يبايعوهم.
أي: لا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم.
وألا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم، وألا يقبلوا من بني هاشم وبني المطلب صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة؛ حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم للقتل.
هكذا بمنتهى الوضوح.
وبدأ تنفيذ الحصار الرهيب في أول ليلة من ليالي المحرم في السنة السابعة من البعثة، ودخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلى شعب أبي طالب ومعهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى يتجمعوا كلهم حول الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحموه من أهل مكة.
ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة من المعاناة والألم، فقد قطع الطعام تماماً عن المحاصرين، فلا بيع ولا شراء، حتى الطعام الذي يأتي مكة من خارجها يشتريه الكفار بسعر عال؛ حتى لا تستطيع بنو عبد مناف شراءه، وأصبح الموقف صعباً، فقد أخذوا الأولاد والنساء في داخل الشعب؛ حتى كان يسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من الجوع، وحتى اضطروا إلى أكل أوراق الشجر، وظلوا كذلك ثلاث سنين كاملة! من محرم في السنة السابعة من البعثة إلى المحرم سنة عشر من البعثة، مأساة بشرية حقيقية.
ثلاث سنوات من الظلم والحصار الجماعي، صورة جاهلية تكررت كثيراً بعد ذلك في الدنيا، نعم اخترعها أهل قريش في ذلك الوقت، لكن للأسف حصلت كثيراً ودائماً مع المسلمين، تكررت في العراق وفي ليبيا والسودان وأفغانستان والصومال وإيران ولبنان وفلسطين، كثير من المسلمين يحاصرون في بقاع الأرض.
ليس الغريب في هذا الحصار أن يضحي المسلمون من بني هاشم وبني المطلب بأنفسهم وبزوجاتهم وبأولادهم؛ لأنهم يقاتلون من أجل عقيدة، لكن الغريب فعلاً أن يصبر الكافر من بني هاشم وبني المطلب على هذا الحصار وهو لا يرجو جنة ولا يخاف من نار، بل لا يؤمن بالبعث، ومع ذلك وقفوا هذه الوقفة الرجولية مع مؤمني بني عبد مناف، لكنهم وقفوا هذه الوقفة حمية، حمية الكرامة أن يهان رجل من نفس القبيلة، حمية الدم والقرابة، حمية العهد الذي قطعوه على أنفسهم قبل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتعاونوا سوياً في حرب غيرهم، حمية واقعية ليست بالخطب والمقالات والأشعار، وضحوا بأنفسهم وأولادهم وزوجاتهم من أجل كلمة.فك حصار الشعب
بعد ثلاث سنوات من حصار الشعب شاء الله عز وجل أن يفك الحصار، وذلك بأن أحد المشركين من بني عامر بن لؤي، لا هو من بني هاشم ولا من بني المطلب أحس بشيء في صدره، وهذا الرجل هو هشام بن عمرو، ظل يسأل نفسه: كيف نأكل ونشرب وهؤلاء لا يأكلون ولا يشربون؟ كيف ينام أطفالنا شابعين وهؤلاء ينام أطفالهم جائعين؟ فكان يحمل الطعام بنفسه سراً إلى شعب أبي طالب، وظل على ذلك فترة، وبعد ذلك أحس بأن ذلك ليس بكاف، ولابد أن يكون هناك موقف أكبر، وأن يفعل شيئاً حتى ينقض هذه الصحيفة، ويلغي هذا القانون الظالم، ولكن هو لوحده وقبيلته ليست كبيرة، كما أن زعماء مكة كلهم يقفون خلف هذا القانون.
بدأ يبحث عمن يساعده، فبدأ برجل من بني مخزوم أكبر القبائل القرشية، وهي قبيلة اعتادت أن تعارض بني هاشم وتتنافس معها، فإذا قبلت هذه القبيلة بفك الحصار فبقية القبائل ستفك الحصار في الغالب، لكن من الذي سيرضى من بني مخزوم بالوقوف مع بني هاشم ضد بني مخزوم، ولا ننسى أن أبا جهل هو زعيم بني مخزوم، وهو من أشد المتحمسين للمقاطعة، فكان لابد من شخصية تعادله، وتستطيع الوقوف أمامه، فذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومي؛ لأن أمه عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلديه دوافع فطرية عصبية، فذهب إليه وكلمه، فقال له: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وأخوالك حيث تعلم.
يعني: هؤلاء أخوالك وأنت تتبع أبا جهل؟ هل نسيت أن بني هاشم أخوالك؟ ثم قال له كلمة خطيرة جداً، قال له: أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام -يعني: أخوال أبي جهل - ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه من المقاطعة ما أجابك إليه أبداً.
يعني: أنت بذلك تخاف من أبي جهل، فقال له زهير: ويحك ما أصنع وأنا رجل واحد؟ ثم قال: أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقام هشام بن عمرو وفاجأه وقال له: وجدته لك، قال: فمن هو؟ قال: أنا، قال زهير: فلننظر لنا ثالثاً أيضاً.
ترك هشام بن عمرو زهيراً وذهب يبحث عن ثالث من ذوي الأخلاق، ذهب إلى المطعم بن عدي من بني نوفل، -أتى بقبيلة ثالثة، ذهب إليه وذكره بأرحام بني المطلب وبني هاشم، فقال المطعم: ويحك ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال المطعم: ابحث لنا عن رجل ثالث؟ فقال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابحث لنا عن رجل رابع.
المهمة صعبة جداً؛ لأن هؤلاء سيقفون أمام كل زعماء الكفر في مكة، ومن أجل رجل خرج عن دينهم، ويقوم بشتم الآلهة، ويأتي بقوانين جديدة لمكة، مهمة صعبة فعلاً أن تدافع عن هذا الرجل، وعن أولئك الذين ساعدوه والتزموا بدينه.
لكن هشام بن عمرو الكافر لم ييأس، وذهب يبحث عن رابع، فذهب إلى أبي البختري بن هشام -البختري بفتح الباء- وقال له مثل ما قال للمطعم، فقال له: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال هشام: نعم، زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا، فقال أبو البختري: ابحث لنا عن رجل خامس؟ فذهب هشام بن عمرو بمنتهى الحمية يبحث من جديد عن رجل خامس، ذهب إلى زمعة بن الأسود وهو من بني أسد، فقال له زمعة: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم ذكر له الأربعة السابقين، فوافق زمعة بن الأسود الأسدي ولم يطلب السادس، واجتمع الخمسة وأخذوا القرار الجريء الذي سيعارضون به أكابر القوم، فهم سيطرحون رأياً قد يؤدي إلى انقسام حاد في المجتمع المكي ونصرة دين لا يقتنعون به ولا يرتبطون.
لماذا هذا كله؟ ما الذي حركهم؟ حركتهم حمية النخوة، فأنت ترفض أن ترى أي إنسان مؤمناً كان أو كافراً يعذب أو يظلم أو يجوّع أو يعطِّش.
هذه النخوة التي زرعت في قلوب أناس ما عرفوا الله عز وجل، لكن هذه النخوة للأسف لم نرها من مسلمين كثر رأوا وشاهدوا بأعينهم جرائم الحصار والقتل في آلاف وملايين المسلمين في العراق والبوسنة وكوسوفا والشيشان وفلسطين وغيرها.
كيف أن هشام بن عمرو الكافر والكفار الذين معه لم يأتهم نوم؛ لأن المسلمين يعذبون؟ وكيف يوجد في الأرض مسلمون ينامون ويأكلون ويشربون ولا يهمهم ما يحدث لإخوانهم وأخواتهم في أكثر من مكان في العالم؟! كيف؟! أين النخوة التي تحركت في قلوب الكافرين الخمسة؟ أين النخوة التي دفعتهم لمعاداة قريش دون مصلحة شخصية متحققة؟ أيأتي على المسلمين زمان نرجو فيه أن تكون أخلاقهم كبعض أخلاق الكافرين، نحن نحتاج فعلاً إلى وقفة مع النفس.
الهجرة الثانية إلى الحبشة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس التاسع من دروس السيرة النبوية.
تحدثنا عن الهجرة إلى الحبشة، وكيف هاجر المسلمون، وكيف استقبلوا هناك، ولماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة دون غيرها، ثم عن عودة المسلمين إلى الحبشة عندما سمعوا بإشاعة مفادها أن مكة آمنت، ثم اكتشفوا بعد ذلك عدم دقة الخبر، فرجعوا مرة أخرى إلى الحبشة، واشتد التعذيب بأرض مكة للمؤمنين المستضعفين، فهنا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة الثانية إلى الحبشة.
وكان هذا القرار -قرار الهجرة الثانية- أصعب بكثير من القرار الأول لأمور: أولاً: أن قريشاً أخذت حذرها، وأغلقت أبواب مكة، ووضعت الحراس على كل مخارجها ومداخلها، فأصبح الخروج صعباً.
ثانياً: أن العدد هذه المرة كبير، ففي أول مرة كانوا (14) رجلاً و (3) نسوة، أما الآن فهم قرابة المائة من غير الأطفال والمتاع الذي أخذوه معهم، ولا ننسى أن مكة بلد صغير، فخروج هذا العدد منها يهزها.
ثالثاً: أن فيهم أسماء لامعة في الإسلام ستخرج من داخل بيوت زعماء مكة المشركين، يظهر هذا من قراءة أسماء المهاجرين إلى الحبشة في المرة الثانية، سنجد مثلاً السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب زعيم زعماء مكة في ذلك الوقت.
وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة أيضاً كان زعيماً كبيراً من زعماء الكفر.
أما سهيل بن عمرو أحد كبار زعماء مكة، والذي كان يقوم بدور المفاوض في صلح الحديبية فقد خرج من بيته ثلاثة من أولاده: سهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، وعبد الله بن سهيل بن عمرو.
وهاجرت أيضاً فاطمة بنت صفوان بن أمية وصفوان بن أمية لم يؤمن إلا بعد فتح مكة.
وهاجر فراس بن النضر بن الحارث، والنضر بن الحارث هو الذي ذهب إلى فارس وعاد يحكي للناس حياة رستم وإسفنديار وحاول أن يبعد الناس عن دين الله عز وجل بكل طريقة ممكنة، ها قد خرج ابنه مهاجراً مع المسلمين إلى الحبشة.
وهاجر هشام بن العاص بن وائل، والعاص بن وائل من أكابر المشركين، ومن الذين نزل القرآن يلعنهم: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77]، وهشام بن العاص أخو عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، لكن عمرو بن العاص في ذلك الوقت لم يكن قد آمن بعد.
إذاً: خروج هؤلاء وأمثالهم من داخل بيوت أولئك الزعماء سيحدث زلزلة في مكة ولا شك، وسيصاب كل زعيم في كبريائه وذكائه وحكمته وتقديره للأمور والأحداث.
في هذا الجو الصعب، وفي هذه الخلفية المعقدة، أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم القرار بالهجرة إلى الحبشة.
كان أمير المهاجرين هذه المرة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وبدأت عملية من أعقد عمليات المناورة بخطة محكمة؛ فقد درست المداخل والمخارج بعناية شديدة، وتعاون الجميع من الصغار والكبار والرجال والنساء لإنجاح هذه المهمة، وبفضل الله سبحانه وتعالى نجحت العملية، وخرج من مكة مائة أو أكثر -على اختلاف الروايات- من الرجال والنساء والأطفال معهم المتاع والزاد، خرجوا إلى البحر الأحمر وركبوا السفن، واتجهوا إلى الحبشة، ولم ينجح الكفار في الإمساك بأي منهم! {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
تصوروا موقف الكفار في اليوم الثاني وقد وجدوا مكة المكرمة نقص منها مائة شخص، تخيلوا الفراغ الهائل الذي تركه هؤلاء الصالحون والصالحات وراءهم.
كان المسلمون في غزوة بدر (313)، معنى هذا أنه لا يوجد بيت في مكة إلا وخرج منه ابن أو أخ أو أخت.
بفضل الله وصل المؤمنون إلى الحبشة واستقبلهم النجاشي رحمه الله خير استقبال، وكان كما قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (ملك لا يظلم عنده أحد)، كان استقباله على نفس المستوى من استقبال الوفد الأول الذي ذهب في هجرة الحبشة الأولى.
لكن هل قبلت قريش بالأمر الواقع، وفكرت في إنهاء الصراع الطويل بينها وبين المؤمنين؟
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس التاسع من دروس السيرة النبوية.
تحدثنا عن الهجرة إلى الحبشة، وكيف هاجر المسلمون، وكيف استقبلوا هناك، ولماذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة دون غيرها، ثم عن عودة المسلمين إلى الحبشة عندما سمعوا بإشاعة مفادها أن مكة آمنت، ثم اكتشفوا بعد ذلك عدم دقة الخبر، فرجعوا مرة أخرى إلى الحبشة، واشتد التعذيب بأرض مكة للمؤمنين المستضعفين، فهنا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة الثانية إلى الحبشة.
وكان هذا القرار -قرار الهجرة الثانية- أصعب بكثير من القرار الأول لأمور: أولاً: أن قريشاً أخذت حذرها، وأغلقت أبواب مكة، ووضعت الحراس على كل مخارجها ومداخلها، فأصبح الخروج صعباً.
ثانياً: أن العدد هذه المرة كبير، ففي أول مرة كانوا (14) رجلاً و (3) نسوة، أما الآن فهم قرابة المائة من غير الأطفال والمتاع الذي أخذوه معهم، ولا ننسى أن مكة بلد صغير، فخروج هذا العدد منها يهزها.
ثالثاً: أن فيهم أسماء لامعة في الإسلام ستخرج من داخل بيوت زعماء مكة المشركين، يظهر هذا من قراءة أسماء المهاجرين إلى الحبشة في المرة الثانية، سنجد مثلاً السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب زعيم زعماء مكة في ذلك الوقت.
وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة أيضاً كان زعيماً كبيراً من زعماء الكفر.
أما سهيل بن عمرو أحد كبار زعماء مكة، والذي كان يقوم بدور المفاوض في صلح الحديبية فقد خرج من بيته ثلاثة من أولاده: سهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم كلثوم بنت سهيل بن عمرو، وعبد الله بن سهيل بن عمرو.
وهاجرت أيضاً فاطمة بنت صفوان بن أمية وصفوان بن أمية لم يؤمن إلا بعد فتح مكة.
وهاجر فراس بن النضر بن الحارث، والنضر بن الحارث هو الذي ذهب إلى فارس وعاد يحكي للناس حياة رستم وإسفنديار وحاول أن يبعد الناس عن دين الله عز وجل بكل طريقة ممكنة، ها قد خرج ابنه مهاجراً مع المسلمين إلى الحبشة.
وهاجر هشام بن العاص بن وائل، والعاص بن وائل من أكابر المشركين، ومن الذين نزل القرآن يلعنهم: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم:77]، وهشام بن العاص أخو عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، لكن عمرو بن العاص في ذلك الوقت لم يكن قد آمن بعد.
إذاً: خروج هؤلاء وأمثالهم من داخل بيوت أولئك الزعماء سيحدث زلزلة في مكة ولا شك، وسيصاب كل زعيم في كبريائه وذكائه وحكمته وتقديره للأمور والأحداث.
في هذا الجو الصعب، وفي هذه الخلفية المعقدة، أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم القرار بالهجرة إلى الحبشة.
كان أمير المهاجرين هذه المرة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وبدأت عملية من أعقد عمليات المناورة بخطة محكمة؛ فقد درست المداخل والمخارج بعناية شديدة، وتعاون الجميع من الصغار والكبار والرجال والنساء لإنجاح هذه المهمة، وبفضل الله سبحانه وتعالى نجحت العملية، وخرج من مكة مائة أو أكثر -على اختلاف الروايات- من الرجال والنساء والأطفال معهم المتاع والزاد، خرجوا إلى البحر الأحمر وركبوا السفن، واتجهوا إلى الحبشة، ولم ينجح الكفار في الإمساك بأي منهم! {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
تصوروا موقف الكفار في اليوم الثاني وقد وجدوا مكة المكرمة نقص منها مائة شخص، تخيلوا الفراغ الهائل الذي تركه هؤلاء الصالحون والصالحات وراءهم.
كان المسلمون في غزوة بدر (313)، معنى هذا أنه لا يوجد بيت في مكة إلا وخرج منه ابن أو أخ أو أخت.
بفضل الله وصل المؤمنون إلى الحبشة واستقبلهم النجاشي رحمه الله خير استقبال، وكان كما قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (ملك لا يظلم عنده أحد)، كان استقباله على نفس المستوى من استقبال الوفد الأول الذي ذهب في هجرة الحبشة الأولى.
لكن هل قبلت قريش بالأمر الواقع، وفكرت في إنهاء الصراع الطويل بينها وبين المؤمنين؟
الهجرة الثانية إلى الحبشة وموقف قريش منها
قد يُعتقد بأن قريشاً ارتاحت لما خرج المؤمنون الخارجون على النظام في مكة، واستقرت الأوضاع بعد ذلك، لكن لا بد أن يحدث الصدام الذي هو سنة من سنن الله عز وجل، حتى لو ترك المؤمنون البلد بالكلية: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] أي: لا تزال قريش وراء المؤمنين في كل مكان في الأرض إلى أن ترجعهم عن الإسلام، فالهدف الأساسي لدى قريش هو تنازل المسلمين عن الدين.
قد يُعتقد بأن قريشاً ارتاحت لما خرج المؤمنون الخارجون على النظام في مكة، واستقرت الأوضاع بعد ذلك، لكن لا بد أن يحدث الصدام الذي هو سنة من سنن الله عز وجل، حتى لو ترك المؤمنون البلد بالكلية: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] أي: لا تزال قريش وراء المؤمنين في كل مكان في الأرض إلى أن ترجعهم عن الإسلام، فالهدف الأساسي لدى قريش هو تنازل المسلمين عن الدين.
وفد قريش إلى النجاشي
قررت قريش أن تتبع المسلمين في الحبشة، ولما كانت قريش لا تستطيع أن تهاجم الحبشة بجيش؛ لأنها مملكة قوية على مسافة بعيدة، بالإضافة إلى العلاقات الطيبة بين الحبشة ومكة، فبحثت قريش عن حل لا يدفع للقتال، فقررت أن ترسل وفداً يطلب من ملك الحبشة أن يرد المسلمين إليها، يعني: لجأت إلى المفاوضات السياسية بينها وبين ملك الحبشة، والمهمة صعبة؛ لأن ملك الحبشة مشتهر بين الناس أنه لا يظلم عنده أحد، مما يجعل المهمة تحتاج إلى احتيال كبير، فحاولت قريش بكل طاقتها أن تنجح هذه المهمة، فاختارت على رأس الوفد اثنين من أمكر رجال قريش: عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة وهذان أسلما بعد ذلك، لكن إسلامهما كان متأخراً.
كان عمرو بن العاص مشهوراً بالدهاء والمكر، ويستطيع بذكائه -بحسابات قريش- أن يتصرف مع ملك الحبشة، ليس هذا فحسب، بل هو صديق شخصي له، وفوق كل هذا فأخو عمرو بن العاص وهو هشام بن العاص كان ضمن المهاجرين إلى الحبشة، فالأمر بالنسبة لـ عمرو يعتبر قضية شخصية، وأيضاً مهمة رسمية، وأيضاً أخو عبد الله بن ربيعة عباس بن أبي ربيعة رضي الله عنهما كان من المهاجرين، فاختاروا هذين الرجلين ليقوما بهذه المهمة في منتهى الجدية، وأنفقوا كثيراً على هذه السفارة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36]، حملَّت قريش الوفد بالهدايا الثمينة وبالذات الجلود، وهذا نوع من الرشوة للملك ولرجال الحكم في الحبشة.
كان عمرو بن العاص في منتهى الذكاء، فلم يدخل على النجاشي مباشرة، إنما ذهب في البداية إلى البطارقة، وهم يمثلون كبار رجال الحكم والدين الموجودين تحت النجاشي في الحبشة، وحمَّلهم جميعاً بالهدايا العظيمة، وبهذا ضمن وقوفهم معه ضد المسلمين، وتأثيرهم على النجاشي.
قررت قريش أن تتبع المسلمين في الحبشة، ولما كانت قريش لا تستطيع أن تهاجم الحبشة بجيش؛ لأنها مملكة قوية على مسافة بعيدة، بالإضافة إلى العلاقات الطيبة بين الحبشة ومكة، فبحثت قريش عن حل لا يدفع للقتال، فقررت أن ترسل وفداً يطلب من ملك الحبشة أن يرد المسلمين إليها، يعني: لجأت إلى المفاوضات السياسية بينها وبين ملك الحبشة، والمهمة صعبة؛ لأن ملك الحبشة مشتهر بين الناس أنه لا يظلم عنده أحد، مما يجعل المهمة تحتاج إلى احتيال كبير، فحاولت قريش بكل طاقتها أن تنجح هذه المهمة، فاختارت على رأس الوفد اثنين من أمكر رجال قريش: عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة وهذان أسلما بعد ذلك، لكن إسلامهما كان متأخراً.
كان عمرو بن العاص مشهوراً بالدهاء والمكر، ويستطيع بذكائه -بحسابات قريش- أن يتصرف مع ملك الحبشة، ليس هذا فحسب، بل هو صديق شخصي له، وفوق كل هذا فأخو عمرو بن العاص وهو هشام بن العاص كان ضمن المهاجرين إلى الحبشة، فالأمر بالنسبة لـ عمرو يعتبر قضية شخصية، وأيضاً مهمة رسمية، وأيضاً أخو عبد الله بن ربيعة عباس بن أبي ربيعة رضي الله عنهما كان من المهاجرين، فاختاروا هذين الرجلين ليقوما بهذه المهمة في منتهى الجدية، وأنفقوا كثيراً على هذه السفارة: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36]، حملَّت قريش الوفد بالهدايا الثمينة وبالذات الجلود، وهذا نوع من الرشوة للملك ولرجال الحكم في الحبشة.
كان عمرو بن العاص في منتهى الذكاء، فلم يدخل على النجاشي مباشرة، إنما ذهب في البداية إلى البطارقة، وهم يمثلون كبار رجال الحكم والدين الموجودين تحت النجاشي في الحبشة، وحمَّلهم جميعاً بالهدايا العظيمة، وبهذا ضمن وقوفهم معه ضد المسلمين، وتأثيرهم على النجاشي.
لقاء عمرو بن العاص بالنجاشي وطلبه رد المسلمين إليه ورد النجاشي عليه
دخل عمرو على النجاشي، وكان اللقاء حاراً بين الصديقين، ليس هذا فقط، بل أتى له بالهدايا العظيمة وأعطاها له، وأصبح الجو مهيأ للكلام، فالكل أخذ الثمن، والابتسامات على الوجوه، والخطة جارية كما يريد.
كان عمرو شديد الذكاء، واختار كل كلمة بدقة شديدة، وأثرت كلماته مع أنها لم تستمر كثيراً، قال: (أيها الملك! إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء).
وهذه سقطة من عمرو بن العاص وكذبة، فمعظم المهاجرين من الأشراف العقلاء، وليسوا من الغلمان السفهاء، ولكنه سهم يضرب به للتحقير من شأن المسلمين، وفي اعتقاده أن النجاشي لن يقدم كلام الغلمان السفهاء على كلام سفارة قريش الرسمية، كان هذا هو السهم الأول لـ عمرو.
أما السهم الثاني فقال فيه: (فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك).
يعني: لا هم يريدوننا ولا حتى أنت شخصياً يريدونك، هكذا هم في تصوير عمرو بن العاص: لم يراعوا حق الأهل، ولا حق المستضيف لهم.
ثم قال في سهمه الثالث: (وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً).
يعني: أنا مرسل إليك من قبل أشراف ورؤساء وزعماء مكة، وهذه إشارة خفية بالتهديد بقطع العلاقات بين مكة والحبشة، ووقف كل المعاملات الاقتصادية والهدايا والجلود.
هذا أولاً.
ثم ثانياً: هؤلاء الأشراف هم آباؤهم وأعمامهم، يعني: لهم حق الأبوة على هؤلاء، فـ عمرو بن العاص يحاول أن يستثير أخلاق النجاشي لرد هؤلاء الأولاد إلى آبائهم.
وثالثاً: يقول له: أنت ممكن أن تنخدع بحلاوة كلامهم، لكن الذين يعلمونهم حق العلم هم الذين عاشوا معهم فترة طويلة، كما قال عمرو بن العاص: فهم أعلى بهم عيناً.
أي: انتبه ولا تنخدع بكلامهم، فالذين عاشوا معهم ثلاثين وأربعين سنة يقولون لك بأنهم يكذبون ويخدعون، ويقولون كلاماً غير موافق للحقيقة.
إذاً: تكلم عمرو بن العاص بكلمة موجزة ذكية لا تخلو من أدب جم، وكان المطلوب فيها رد المسلمين إلى مكة.
بعدما انتهى عمرو بن العاص من كلامه، وقبل أن يتكلم النجاشي تدخل البطارقة والوزراء وكبار القوم وقالوا: صدقا أيها الملك -أي: عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة - فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم.
وهؤلاء البطارقة والوزراء قد أخذوا الرشوة، وكان عمرو بن العاص يشعر بسعادة كبيرة، فكل شيء يمشي كما خطط، وكان كل مراده أن يرجع النجاشي إليه المسلمين من غير أن يسمع كلامهم ولا حجتهم؛ لأن عمراً يعرف أن كلام المسلمين جميل ومقنع، وأن معهم أسلحة لا يمكنه مواجهتها، وأهم هذه الأسلحة القرآن الكريم، لكن النجاشي ملك لا يظلم عنده أحد، وليس من العدل أن يحكم في قضية دون أن يستمع إلى الطرف الآخر.
هذه أبسط قواعد العدل في الحكم.
قال النجاشي رداً على عمرو ورداً على البطارقة الموالين والمحبين لـ عمرو: لا والله لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان -غلمان سفهاء خرجوا عن دين الآباء وفعلوا كذا وكذا- أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
ثم بعث للمسلمين الذين علموا بمجيء عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة لاستعادتهم.
اجتمع المسلمون في مجلس سريع للشورى، وقالوا: ما تقولون للنجاشي إذا جئتموه؟ قالوا: نقول: والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن، {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:64].
كانت الرؤية واضحة تماماً عند المسلمين بلا خوف أو قلق؛ لأن الخوف إنما يكون من ربنا وحسب.
هذا هو الشعور والإحساس الذي كان عند المسلمين، لا يوجد أي نوع من القلق؛ لأنهم سيقولون كلام ربنا سبحان وتعالى.
ثم اختاروا متحدثاً عنهم هو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لأمور: أولاً: أنه رئيس الوفد، ورئيس الوفد هو الممثل الرسمي للوفد، ومؤكد أنه التقى قبل ذلك بـ النجاشي، وألف الحوار معه.
ثانياً: أنه خطيب مفوه يستطيع أن يوصل كلام المسلمين بأفضل صورة ممكنة.
ثالثاً: أنه من أشرف أشراف الوفد، هاشمي قرشي، وفي هذا رد على كلمة عمرو بن العاص: إنه قد ضوى إلى بلادك غلمان سفهاء.
دخل عمرو على النجاشي، وكان اللقاء حاراً بين الصديقين، ليس هذا فقط، بل أتى له بالهدايا العظيمة وأعطاها له، وأصبح الجو مهيأ للكلام، فالكل أخذ الثمن، والابتسامات على الوجوه، والخطة جارية كما يريد.
كان عمرو شديد الذكاء، واختار كل كلمة بدقة شديدة، وأثرت كلماته مع أنها لم تستمر كثيراً، قال: (أيها الملك! إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء).
وهذه سقطة من عمرو بن العاص وكذبة، فمعظم المهاجرين من الأشراف العقلاء، وليسوا من الغلمان السفهاء، ولكنه سهم يضرب به للتحقير من شأن المسلمين، وفي اعتقاده أن النجاشي لن يقدم كلام الغلمان السفهاء على كلام سفارة قريش الرسمية، كان هذا هو السهم الأول لـ عمرو.
أما السهم الثاني فقال فيه: (فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك).
يعني: لا هم يريدوننا ولا حتى أنت شخصياً يريدونك، هكذا هم في تصوير عمرو بن العاص: لم يراعوا حق الأهل، ولا حق المستضيف لهم.
ثم قال في سهمه الثالث: (وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً).
يعني: أنا مرسل إليك من قبل أشراف ورؤساء وزعماء مكة، وهذه إشارة خفية بالتهديد بقطع العلاقات بين مكة والحبشة، ووقف كل المعاملات الاقتصادية والهدايا والجلود.
هذا أولاً.
ثم ثانياً: هؤلاء الأشراف هم آباؤهم وأعمامهم، يعني: لهم حق الأبوة على هؤلاء، فـ عمرو بن العاص يحاول أن يستثير أخلاق النجاشي لرد هؤلاء الأولاد إلى آبائهم.
وثالثاً: يقول له: أنت ممكن أن تنخدع بحلاوة كلامهم، لكن الذين يعلمونهم حق العلم هم الذين عاشوا معهم فترة طويلة، كما قال عمرو بن العاص: فهم أعلى بهم عيناً.
أي: انتبه ولا تنخدع بكلامهم، فالذين عاشوا معهم ثلاثين وأربعين سنة يقولون لك بأنهم يكذبون ويخدعون، ويقولون كلاماً غير موافق للحقيقة.
إذاً: تكلم عمرو بن العاص بكلمة موجزة ذكية لا تخلو من أدب جم، وكان المطلوب فيها رد المسلمين إلى مكة.
بعدما انتهى عمرو بن العاص من كلامه، وقبل أن يتكلم النجاشي تدخل البطارقة والوزراء وكبار القوم وقالوا: صدقا أيها الملك -أي: عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة - فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم.
وهؤلاء البطارقة والوزراء قد أخذوا الرشوة، وكان عمرو بن العاص يشعر بسعادة كبيرة، فكل شيء يمشي كما خطط، وكان كل مراده أن يرجع النجاشي إليه المسلمين من غير أن يسمع كلامهم ولا حجتهم؛ لأن عمراً يعرف أن كلام المسلمين جميل ومقنع، وأن معهم أسلحة لا يمكنه مواجهتها، وأهم هذه الأسلحة القرآن الكريم، لكن النجاشي ملك لا يظلم عنده أحد، وليس من العدل أن يحكم في قضية دون أن يستمع إلى الطرف الآخر.
هذه أبسط قواعد العدل في الحكم.
قال النجاشي رداً على عمرو ورداً على البطارقة الموالين والمحبين لـ عمرو: لا والله لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان -غلمان سفهاء خرجوا عن دين الآباء وفعلوا كذا وكذا- أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
ثم بعث للمسلمين الذين علموا بمجيء عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة لاستعادتهم.
اجتمع المسلمون في مجلس سريع للشورى، وقالوا: ما تقولون للنجاشي إذا جئتموه؟ قالوا: نقول: والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن، {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:64].
كانت الرؤية واضحة تماماً عند المسلمين بلا خوف أو قلق؛ لأن الخوف إنما يكون من ربنا وحسب.
هذا هو الشعور والإحساس الذي كان عند المسلمين، لا يوجد أي نوع من القلق؛ لأنهم سيقولون كلام ربنا سبحان وتعالى.
ثم اختاروا متحدثاً عنهم هو جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لأمور: أولاً: أنه رئيس الوفد، ورئيس الوفد هو الممثل الرسمي للوفد، ومؤكد أنه التقى قبل ذلك بـ النجاشي، وألف الحوار معه.
ثانياً: أنه خطيب مفوه يستطيع أن يوصل كلام المسلمين بأفضل صورة ممكنة.
ثالثاً: أنه من أشرف أشراف الوفد، هاشمي قرشي، وفي هذا رد على كلمة عمرو بن العاص: إنه قد ضوى إلى بلادك غلمان سفهاء.
اجتماع جمع المسلمين ووفد قريش ببلاط النجاشي
ذهب المسلمون للقاء النجاشي في اجتماع مهيب، كان النجاشي وسط الاجتماع ومن حوله الأساقفة والبطارقة والوزراء، وكبار رجال الدولة، وأمامهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ومن ورائهم الوفد القرشي الكافر، وجعفر بن أبي طالب ومن ورائه الوفد المسلم.
بدأ الاجتماع الكبير، وافتتح النجاشي هذا الاجتماع بسؤال للمسلمين في منتهى الوضوح والغرابة، قال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟ الغريب في السؤال أن المسلمين ما قالوا للنجاشي أي شيء قبل ذلك عن دينهم، ولا هو سأل، ولم يتحمس المسلمون للقيام بواجب الدعوة في الحبشة؛ لأن الهدف المرحلي للمسلمين في هذه الفترة هو الحفاظ على الدين ممثلاً في المسلمين، ولأنهم يدركون مدى قوتهم البسيطة، ولم يريدوا أن يفتحوا عليهم جبهات جديدة داخل الحبشة، وآثروا أن يتكتموا أمرهم، ويحافظوا على سريتهم، ويهتموا بالدواعي الأمنية للوفد المسلم على حساب الناحية الدعوية في هذه المرحلة.
وهذا من فقه المرحلة.
فـ النجاشي رحمه الله لم يسأل، واكتفى فقط بمجرد قول المسلمين بأنهم قد ظلموا في بلادهم فلجئوا إليه، أما كيف ظلموا؟ ولماذا؟ لم يسأل.
لكن الوضع في هذا الوقت تغير بالنسبة للنجاشي؛ لأنه ستحدث بينه وبين مكة مشكلة سياسية، ولابد من التحقيق فيها، كما أن الوضع تغير بالنسبة للمسلمين، ولا ينبغي لهم أن يسكتوا في هذا الوقت، فهم الآن يمثلون دين الإسلام، ولو قالوا كلاماً مغايراً للحقيقة قد يفهم الإسلام بصورة خاطئة، نعم، من الممكن أن يسبب لهم التصريح بالإسلام مشكلة، لكن ليس أمامهم غير هذا، فماذا سيقول جعفر في كلمته أمام النجاشي والوزراء وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة؟ قال كلمات وكأن الله سبحانه وتعالى هو الذي وضعها على لسان جعفر رضي الله عنه وأرضاه، وبالترتيب الذي قاله قسم جعفر المقالة إلى عدة مقاطع، كل مقطع له غرض معين، ورتبها ترتيبًا جميلاً.
المقطع الأول قال فيه: (أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعف).
هذه أمور تأنف منها النفوس الكريمة، وفي هذا إشارة واضحة إلى أن عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ما زالا على هذه الصورة الخبيثة، وهذه الجاهلية التي يتحدث عنها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ثم إن كل المشاكل التي عرضها جعفر في حال الجاهلية تتعلق بالظلم، إما الظلم مع النفس بعبادة الأصنام: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، أو مع الرحم بقطع الأرحام، أو مع الجار بالإساءة إليه، أو مع الضعيف بأكل حقه.
وتخيل أن هذه الصورة تعرض على ملك عادل لا يظلم عنده أحد.
ثم إن النجاشي شعر بالبشاعة التي عليها أهل مكة وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة.
فكان هذا أول سهم أطلقه جعفر بن أبي طالب في مقتل لقريش.
المقطع الثاني: قال جعفر: (فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه)، يعني: الذي جاء بهذا الدين ليس رجلاً أفاكاً كذاباً يريد خداع الناس، إنما يشهد بصدقه وأمانته وعفافه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مشهوراً بذلك في مكة، ولا ننسى أن النصارى يؤمنون بالرسل بصفة عامة، والإنجيل والتوراة فيهما الحديث عن رسل كثيرين، فالحديث عن الرسل ليس بمستغرب لديهم.
فكان هذا هو السهم الثاني من سهام جعفر رضي الله عنه وأرضاه.
المقطع الثالث: تكلم فيه عن الصورة المضادة للجاهلية، قال: (فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام إلخ.
تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها راوية القصة: (فعدد عليه أمور الإسلام)، يعني: ذكر له أموراً كثيرة من فضائل الإسلام.
أنا أريد منك أن تتخيل موقف النجاشي وهو يسمع هاتين الصورتين المتناقضتين، صورة الإسلام، وصورة الجاهلية، مع العلم أن جعفراً لم يكذب، إنما الحقيقة أن الباطل بطبيعته قبيح مقيت، والإسلام بطبيعته جميل محبوب.
فكان هذا هو السهم الثالث من سهام جعفر رضي الله عنه وأرضاه.
المقطع الرابع: قال جعفر: (فصدقنا
ذهب المسلمون للقاء النجاشي في اجتماع مهيب، كان النجاشي وسط الاجتماع ومن حوله الأساقفة والبطارقة والوزراء، وكبار رجال الدولة، وأمامهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ومن ورائهم الوفد القرشي الكافر، وجعفر بن أبي طالب ومن ورائه الوفد المسلم.
بدأ الاجتماع الكبير، وافتتح النجاشي هذا الاجتماع بسؤال للمسلمين في منتهى الوضوح والغرابة، قال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟ الغريب في السؤال أن المسلمين ما قالوا للنجاشي أي شيء قبل ذلك عن دينهم، ولا هو سأل، ولم يتحمس المسلمون للقيام بواجب الدعوة في الحبشة؛ لأن الهدف المرحلي للمسلمين في هذه الفترة هو الحفاظ على الدين ممثلاً في المسلمين، ولأنهم يدركون مدى قوتهم البسيطة، ولم يريدوا أن يفتحوا عليهم جبهات جديدة داخل الحبشة، وآثروا أن يتكتموا أمرهم، ويحافظوا على سريتهم، ويهتموا بالدواعي الأمنية للوفد المسلم على حساب الناحية الدعوية في هذه المرحلة.
وهذا من فقه المرحلة.
فـ النجاشي رحمه الله لم يسأل، واكتفى فقط بمجرد قول المسلمين بأنهم قد ظلموا في بلادهم فلجئوا إليه، أما كيف ظلموا؟ ولماذا؟ لم يسأل.
لكن الوضع في هذا الوقت تغير بالنسبة للنجاشي؛ لأنه ستحدث بينه وبين مكة مشكلة سياسية، ولابد من التحقيق فيها، كما أن الوضع تغير بالنسبة للمسلمين، ولا ينبغي لهم أن يسكتوا في هذا الوقت، فهم الآن يمثلون دين الإسلام، ولو قالوا كلاماً مغايراً للحقيقة قد يفهم الإسلام بصورة خاطئة، نعم، من الممكن أن يسبب لهم التصريح بالإسلام مشكلة، لكن ليس أمامهم غير هذا، فماذا سيقول جعفر في كلمته أمام النجاشي والوزراء وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة؟ قال كلمات وكأن الله سبحانه وتعالى هو الذي وضعها على لسان جعفر رضي الله عنه وأرضاه، وبالترتيب الذي قاله قسم جعفر المقالة إلى عدة مقاطع، كل مقطع له غرض معين، ورتبها ترتيبًا جميلاً.
المقطع الأول قال فيه: (أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعف).
هذه أمور تأنف منها النفوس الكريمة، وفي هذا إشارة واضحة إلى أن عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ما زالا على هذه الصورة الخبيثة، وهذه الجاهلية التي يتحدث عنها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، ثم إن كل المشاكل التي عرضها جعفر في حال الجاهلية تتعلق بالظلم، إما الظلم مع النفس بعبادة الأصنام: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، أو مع الرحم بقطع الأرحام، أو مع الجار بالإساءة إليه، أو مع الضعيف بأكل حقه.
وتخيل أن هذه الصورة تعرض على ملك عادل لا يظلم عنده أحد.
ثم إن النجاشي شعر بالبشاعة التي عليها أهل مكة وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة.
فكان هذا أول سهم أطلقه جعفر بن أبي طالب في مقتل لقريش.
المقطع الثاني: قال جعفر: (فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه)، يعني: الذي جاء بهذا الدين ليس رجلاً أفاكاً كذاباً يريد خداع الناس، إنما يشهد بصدقه وأمانته وعفافه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مشهوراً بذلك في مكة، ولا ننسى أن النصارى يؤمنون بالرسل بصفة عامة، والإنجيل والتوراة فيهما الحديث عن رسل كثيرين، فالحديث عن الرسل ليس بمستغرب لديهم.
فكان هذا هو السهم الثاني من سهام جعفر رضي الله عنه وأرضاه.
المقطع الثالث: تكلم فيه عن الصورة المضادة للجاهلية، قال: (فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام إلخ.
تقول السيدة أم سلمة رضي الله عنها راوية القصة: (فعدد عليه أمور الإسلام)، يعني: ذكر له أموراً كثيرة من فضائل الإسلام.
أنا أريد منك أن تتخيل موقف النجاشي وهو يسمع هاتين الصورتين المتناقضتين، صورة الإسلام، وصورة الجاهلية، مع العلم أن جعفراً لم يكذب، إنما الحقيقة أن الباطل بطبيعته قبيح مقيت، والإسلام بطبيعته جميل محبوب.
فكان هذا هو السهم الثالث من سهام جعفر رضي الله عنه وأرضاه.
المقطع الرابع: قال جعفر: (فصدقنا
إسلام حمزة
وقع حدث مهم ما بين الهجرتين الأولى والثانية إلى الحبشة، كان سبباً في تغيير كبير في مسار الدعوة، وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، ثم إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعده بثلاثة أيام فقط، وذلك في أواخر السنة السادسة من النبوة {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
نبدأ بإسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه؛ لأنه كان الأسبق: كان حمزة بن عبد المطلب فارساً من فرسان قريش الأشداء، كان من أقواهم شكيمة رضي الله عنه وأرضاه، وفي يوم من الأيام -وكان ما يزال كافراً- خرج إلى الصيد، وفي هذا اليوم مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده جالساً وحيداً عند الصفا، وكانت بعيدة قليلاً عن بيوت مكة، فتطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم بلسانه وسبه سباً قبيحاً، والرسول صلى الله عليه وسلم ساكت لم يرد عليه: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، وهذا ليس أي جاهل، بل هو أبو جهل نفسه، ولم يزده حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جهلاً، فأخذ حجراً ورماه في رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، فسالت الدماء من رأسه! فذهب أبو جهل فرحاً بعمله، ويظن أنه لم يره أحد، لكن الله عز وجل الذي لا يغفل ولا ينام له تدبير عجيب، فقد سخر الله عز وجل مولاة لـ عبد الله بن جدعان رأت الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل، فلما أتى حمزة بن عبد المطلب وقفت الجارية تقص عليه الحادث.
الجارية كافرة ومولاها كافر، والذي تحكي له كافر، لكن: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
قالت الجارية: يا أبا عمارة! لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد.
فأثارت الحمية في قلب حمزة رضي الله عنه، خصوصاً عندما زادت كلمة (ابن أخيك).
قالت: لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفاً من أبي الحكم بن هشام، وجده ها هنا جالساً فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه محمد ولم يكلمه.
انصرف محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يوجد أحد يدافع عنه، فقد كان الوحيد في أعمامه الذي يدافع عنه أبو طالب، لكن أين بقية الأعمام؟ أين أبو لهب؟ كان من أشد المحاربين له.
أين العباس وحمزة؟ لا يوجد أحد مشغول برسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يوجد أحد فيهم متذكر لـ عبد الله والد الرسول صلى الله عليه وسلم، يا ترى لو كان حياً هل سيكون الموقف مثل هذا؟ أين بنو هاشم؟ وأين بنو عبد مناف؟ أبو جهل زعيم بني مخزوم يضرب أشرف شرفاء بني هاشم على الإطلاق، بل أشرف إنسان في الأرض.
عندها تجمعت المشاعر في قلب حمزة مشاعر الحب لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولأبيه عبد الله الذي مات وترك محمداً لهم، مشاعر القبلية الهاشمية القرشية الشريفة، مشاعر الغيظ من زعيم بني مخزوم، مشاعر النخوة والنصرة للمظلوم، مشاعر الإحراج أمام شباب وفرسان مكة، مشاعر كثيرة جعلت الدم يغلي في قلب حمزة.
ذهب حمزة مسرعاً إلى أبي جهل، فعرف أنه في المسجد الحرام، فأقبل نحوه لا يقوى أحد على معارضته، حتى وقف أمامه، ثم رفع قوسه وضرب رأس أبي جهل ضربة شجت رأسه وتفجر منها الدم، قصاص ضربة بضربة، ودماء بدماء، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب بعيداً عن الناس فقد ضربه بين الناس في المسجد الحرام، فضيحة بكل المقاييس.
هذا الرد في عرف الناس يشفي الغليل، لكن حمزة ما زال لم يشف غليله، ما زال يريد أن يغيظه أكثر، ولو قتله ستنشب حرب هائلة في مكة بين بني هاشم وبني مخزوم، ولكنه فكر في أشد ما يغيظ أبا جهل، إنه الدين الجديد الإسلام، فاندفع حمزة دون تفكير وقال: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول، فرد علي ذلك إن استطعت، يريد أن يغيظه بكل طاقته، لم يفكر في عواقب هذه الكلمة الخطيرة، المهم في هذا الوقت أن أبا جهل يذل وسط الناس.
كان أبو جهل غارقاً في فضيحته، ولم يعد يعرف بم يفكر، وحمزة أمامه يقول بأنه قد أسلم، فقام رجال من بني مخزوم لينتصروا لـ أبي جهل، لكن أبا جهل كان يخشى من ذلك، فقال في ذلة شديدة: دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً.
جلس حمزة بعد هذا مع نفسه، أبهذه السهولة يدخل في دين الإسلام؟ أبهذه السهولة يقول في لحظة واحدة الكلمة التي رفض أن يقولها في سنوات مضت، يسمع فيها عن الإسلا
إسلام عمروقع حدث مهم ما بين الهجرتين الأولى والثانية إلى الحبشة، كان سبباً في تغيير كبير في مسار الدعوة، وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، ثم إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعده بثلاثة أيام فقط، وذلك في أواخر السنة السادسة من النبوة {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
نبدأ بإسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه؛ لأنه كان الأسبق: كان حمزة بن عبد المطلب فارساً من فرسان قريش الأشداء، كان من أقواهم شكيمة رضي الله عنه وأرضاه، وفي يوم من الأيام -وكان ما يزال كافراً- خرج إلى الصيد، وفي هذا اليوم مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده جالساً وحيداً عند الصفا، وكانت بعيدة قليلاً عن بيوت مكة، فتطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم بلسانه وسبه سباً قبيحاً، والرسول صلى الله عليه وسلم ساكت لم يرد عليه: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، وهذا ليس أي جاهل، بل هو أبو جهل نفسه، ولم يزده حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جهلاً، فأخذ حجراً ورماه في رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، فسالت الدماء من رأسه! فذهب أبو جهل فرحاً بعمله، ويظن أنه لم يره أحد، لكن الله عز وجل الذي لا يغفل ولا ينام له تدبير عجيب، فقد سخر الله عز وجل مولاة لـ عبد الله بن جدعان رأت الذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل، فلما أتى حمزة بن عبد المطلب وقفت الجارية تقص عليه الحادث.
الجارية كافرة ومولاها كافر، والذي تحكي له كافر، لكن: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
قالت الجارية: يا أبا عمارة! لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد.
فأثارت الحمية في قلب حمزة رضي الله عنه، خصوصاً عندما زادت كلمة (ابن أخيك).
قالت: لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفاً من أبي الحكم بن هشام، وجده ها هنا جالساً فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه محمد ولم يكلمه.
انصرف محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يوجد أحد يدافع عنه، فقد كان الوحيد في أعمامه الذي يدافع عنه أبو طالب، لكن أين بقية الأعمام؟ أين أبو لهب؟ كان من أشد المحاربين له.
أين العباس وحمزة؟ لا يوجد أحد مشغول برسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يوجد أحد فيهم متذكر لـ عبد الله والد الرسول صلى الله عليه وسلم، يا ترى لو كان حياً هل سيكون الموقف مثل هذا؟ أين بنو هاشم؟ وأين بنو عبد مناف؟ أبو جهل زعيم بني مخزوم يضرب أشرف شرفاء بني هاشم على الإطلاق، بل أشرف إنسان في الأرض.
عندها تجمعت المشاعر في قلب حمزة مشاعر الحب لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولأبيه عبد الله الذي مات وترك محمداً لهم، مشاعر القبلية الهاشمية القرشية الشريفة، مشاعر الغيظ من زعيم بني مخزوم، مشاعر النخوة والنصرة للمظلوم، مشاعر الإحراج أمام شباب وفرسان مكة، مشاعر كثيرة جعلت الدم يغلي في قلب حمزة.
ذهب حمزة مسرعاً إلى أبي جهل، فعرف أنه في المسجد الحرام، فأقبل نحوه لا يقوى أحد على معارضته، حتى وقف أمامه، ثم رفع قوسه وضرب رأس أبي جهل ضربة شجت رأسه وتفجر منها الدم، قصاص ضربة بضربة، ودماء بدماء، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب بعيداً عن الناس فقد ضربه بين الناس في المسجد الحرام، فضيحة بكل المقاييس.
هذا الرد في عرف الناس يشفي الغليل، لكن حمزة ما زال لم يشف غليله، ما زال يريد أن يغيظه أكثر، ولو قتله ستنشب حرب هائلة في مكة بين بني هاشم وبني مخزوم، ولكنه فكر في أشد ما يغيظ أبا جهل، إنه الدين الجديد الإسلام، فاندفع حمزة دون تفكير وقال: أتشتمه وأنا على دينه، أقول ما يقول، فرد علي ذلك إن استطعت، يريد أن يغيظه بكل طاقته، لم يفكر في عواقب هذه الكلمة الخطيرة، المهم في هذا الوقت أن أبا جهل يذل وسط الناس.
كان أبو جهل غارقاً في فضيحته، ولم يعد يعرف بم يفكر، وحمزة أمامه يقول بأنه قد أسلم، فقام رجال من بني مخزوم لينتصروا لـ أبي جهل، لكن أبا جهل كان يخشى من ذلك، فقال في ذلة شديدة: دعوا أبا عمارة، فإني والله قد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً.
جلس حمزة بعد هذا مع نفسه، أبهذه السهولة يدخل في دين الإسلام؟ أبهذه السهولة يقول في لحظة واحدة الكلمة التي رفض أن يقولها في سنوات مضت، يسمع فيها عن الإسلا
ليست الهداية أمراً يمتلكه البشر، حتى الرسل، ولكنها شيء بيد الله تعالى، وذلك ما يتجلى في إسلام رجل شديد على المؤمنين قبل إسلامه كعمر بن الخطاب، وقد كان إسلامه مع حمزة رضي الله عنهما نصراً للمسلمين، مكنهم من الجهر بدينهم، والوقوف موقف الند ممن كان يضطهدهم ويعذبهم، وذلك مما حدا بأهل مكة إلى اتخاذ قرار حصار الشعب بصحيفة ظالمة علقت في جوف الكعبة، واستمر ذلك الحصار ثلاث سنوات لم تضعف للمؤمنين فيه عزيمة، بل ازدادوا صلابة وشدة في دين الله.عمر قبل الإسلام
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس العاشر من دروس السيرة النبوية.
تكلمنا من قبل عن الهجرة الثانية إلى الحبشة، وعن استقرار المسلمين فيها، وعن الانتصار الكبير الذي حققه المسلمون على عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة أمام النجاشي رضي الله عنهم.
ثم ذكرنا قصة إسلام حمزة رضي الله عنه، وكيف كان إيمانه إضافة عظيمة للصف المسلم، ثم بعد ثلاثة أيام فقط من إيمان حمزة آمن رجل آخر، آمن عظيم سيغير الله عز وجل به وجه الأرض وحركة التاريخ، وسيزلزل به عروش ملوك الأرض في زمانه كسرى وقيصر وغيرهما، هذا المؤمن الجديد هو عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه.
منذ أول لحظات إيمانه وحتى آخر لحظات حياته رضي الله عنه وأرضاه وهو فاروق.
كانت قصة إسلامه أعجب من قصة إسلام حمزة رضي الله عنه، فـ حمزة رضي الله عنه خلال السنوات الست التي سبقت إسلامه كان بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وبالنسبة للمؤمنين لا معهم ولا عليهم، أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان تاريخه مع المسلمين كله قسوة وعنفاً.
كان عمر مثل حمزة رجل مغمور في التاريخ ككل رجال قريش قبل أن يسلموا، نعم كانت له سفارة قريش، كان مسموع الكلمة في قبيلته بني عدي وفي قريته مكة، لكن في النهاية ما هي قبيلة بني عدي، وما هي مكة بالنسبة للعالم قبل الإسلام؟ ما هي مكة بالنسبة لفارس والروم والحبشة ومصر والصين والهند؟ مجموعة من القبائل البدوية البسيطة تعيش وسط الصحراء على الرعي والتجارة وبيع الأصنام.
هؤلاء هم أهل مكة قبل الإسلام، وكان عمر مثله مثل آلاف أو ملايين أو بلايين الرجال الذين مروا في التاريخ الذين لم يسمع بهم أحد قبل ذلك ولا بعد.
وعمر فوق ذلك كله كانت فيه قسوة على المسلمين قبل إسلامه، كان يعذب جارية له أسلمت من أول النهار إلى آخره، ويقول: والله ما تركتها إلا ملالة.
يعني: ضجرت من كثرة الضرب والتعذيب.
شعرت زوجة عامر بن ربيعة رضي الله عنها برقة في كلام عمر، لما رآها تجهز نفسها لهجرة الحبشة الأولى، قال لها كلمة رقيقة، قال لها: صحبكما الله.
وهي غير معتادة منه على هذه الرقة، فقالت لزوجها في ذلك، فقال لها: أطمعت في إسلامه؟ قالت: نعم، قال: فلا يسلم الذي رأيت -يعني: عمر بن الخطاب - حتى يسلم حمار الخطاب، يأس كامل في إسلام عمر.
يرى عامر أن فرصة إسلام حمار الخطاب أكبر من فرصة إسلام عمر، إلا أن نظرة المرأة كانت أدق من نظرة الرجل، ورأت بقلبها ما لم يره زوجها بعقله.
كان عمر يعيش في صراع نفسي بين أن يكون زعيماً قائداً في مكة، وبين أن يكون تابعاً لأمر هذا الدين، فقلبه يقول له: لعل هؤلاء على الحق، فرئيسهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم تكن حوله أي شبهات، فهو الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، لكن عقله يقول له: أنت سفير قريش وقائد من قوادها، والإسلام سيضيع عليك كل هذا، قسم الإسلام مكة نصفين: نصفاً يؤمن به، والنصف الثاني يحاربه، ومنذ ستة أعوام ونحن في صراع وخلافات ومناظرات ومحاورات، وقد عشنا مئات السنين نعبد الآلهة دون اعتراض من أحد أو تخطئة، فلماذا محمد صلى الله عليه وسلم تجرأ وخطأنا؟ صراع شديد يدور في نفس عمر، فقلبه في طريق وعقله في طريق آخر، وأصدقاء السوء كثر في مكة، وكلهم يزينون له المنكر، في النهاية شعر بكراهية شديدة للرسول صلى الله عليه وسلم الذي وضعه في مثل هذا الصراع النفسي الرهيب، فقد عاش عمر لا يعرف التردد، وهو الآن يريد أن يخلص نفسه ومكة من الرجل الذي كان سبباً في كل هذه المشاكل، أراد أن يحسم القضية كطبعه دائماً؛ لذا قرر أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يفعل الذي فكرت فيه قريش ولم تستطع فعله، أتى القرار في ذهنه في لحظة، ومحاولة التنفيذ كانت في اللحظة الثانية مباشرة.
وكان مما زاد الأمر حماسة أن أبا جهل من يومين فُضح فضيحة غير مسبوقة في مكة، والذي فضحه حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمزة يدعي بأنه قد أصبح على دين محمد صلى الله عليه وسلم، وأبو جهل خال عمر بن الخطاب.
فهذه المشاكل كلها بسبب محمد صلى الله عليه وسلم، وعمر أصيب في كرامته كما أصيب أبو جهل،لحظات إسلام الفاروق
خرج عمر من بيته متوشحاً سيفه، خرج ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، ظل يبحث في كل مكان عن الرسول وهو لا يدري أين يجلس، ودار الأرقم بن أبي الأرقم لم يكن يعرفها أحد، وفي أثناء بحثه قابله نعيم بن عبد الله رضي الله عنه، ولكن لم يكن أحد يعلم بإسلامه، وهو من نفس قبيلة عمر من بني عدي، وكان واضحاً من عمر أنه في قمة الغضب، فقال له نعيم: أين تريد؟ فقال له في منتهى الصرامة والجدية: أريد محمداً، هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسفه آلهتها فأقتله! كان نعيم رضي الله عنه يعلم أبعاد هذه الكلمات، ولا يوجد لديه وقت لتنبيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يفكر كثيراً، ووجد نفسه مضطراً إلى كشف سر إسلام أخت عمر بن الخطاب السيدة فاطمة بنت الخطاب وإسلام زوجها سعيد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، حتى وإن كان عمر سيقتلهما، ولكنه في المقابل سيجد الوقت الكافي ليبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يأخذ حذره.
فـ نعيم كان يظن أن هذا هو الحل الوحيد الذي قد يصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن مراده؛ لأنه لو أخبره عن إسلام أي شخص آخر لن يهتم، ولكن إسلام أخته وزوجها شيء يطعن في كرامة عمر رضي الله عنه، قال نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟ يخوفه من بني عبد مناف، فربما تنفع، ثم قال له: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم.
يعني: اذهب إلى أهل بيتك أولاً وابدأ بهم ثم التفت إلى محمد.
فصرخ عمر في فزع: أي أهل بيتي؟ فقال: ابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما، وتابعا محمداً على دينه، فعليك بهما.
فشعر عمر أن الدماء تغلي في قلبه، ونسي كل شيء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فذهب مسرعاً إلى بيت أخته، وذهب نعيم مسرعاً إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه.
في هذا الوقت كان خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه يجلس مع سعيد بن زيد وزوجته في بيتهما يعلمهما القرآن؛ فالرسول كان يقسم الصحابة إلى مجموعات، كل مجموعة تقوم بمدارسة القرآن مع بعضها، ثم يجتمعون كلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
وكان خباب بن الأرت هو المعلم لـ سعيد وزوجته.
وصل عمر إلى بيت أخته ووضع أذنه على الباب فسمع صوتهم وهم يقرءون القرآن، فظل يضرب الباب بكل قوته، ولو كان يستطيع كسره لكسره، وهو ينادي بعنف: افتحوا الباب افتحوا الباب.
وإذا كان عمر مرعباً في هدوئه فما بالك في غضبه، أما خباب فاختبأ في غرفة داخلية، وقال في نفسه: لئن نجا سعيد بن زيد وفاطمة بنت الخطاب فلن أنجو أنا، وخباب من الموالي ديته بسيطة، وعمر لن يفكر كثيراً قبل أن يقتله.
بعد اختباء خباب أصبح الدور على سعيد وفاطمة.
قام سعيد رضي الله عنه وفتح الباب، فدخل عمر إلى البيت وهو يحترق من الغضب، قال عمر: لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، ثم بدأ يضرب سعيداً فقامت فاطمة بنت الخطاب ووقفت بينه وبين سعيد تدافع عن زوجها، فالتفت إليها عمر وترك سعيد بن زيد وبدأ يضربها حتى سالت الدماء على وجه فاطمة رضي الله عنه، لما رأى سعيد هذا الأمر لم يجد بداً من الهجوم على الأمر، وقال له في تحدٍ شديد: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك! استغرب عمر من شجاعة سعيد؛ فلا يوجد في مكة من يكلمه بهذه الطريقة، وأعجب من هذا أن فاطمة المرأة الضعيفة البسيطة وقفت وأمسكت بوجه عمر، وقالت له في قوة: وقد كان ذلك على رغم أنفك يا عمر)، ذهل عمر.
من هذا الذي يتحدث؟ أليست هذه أخته؟ ما الذي جرأها عليه؟! أحس عمر على بأسه وشدته وسطوته أنه صغير لا يستطيع أن يقف أمامها، وشعر أن الدنيا تغيرت وهو لا يعلم، أول مرة يتعرض لمثل هذا الموقف في حياته، ثم قال عمر كلمة تدل على رقة قلبه التي تختفي وراء هذه الغلظة الظاهرة، قال: فاستحييت حين رأيت الدماء.
الرجل الذي ليس فيه خير لا يستحي من رؤية دماء تسيل على وجه امرأة خرجت عن دينه،عمر بعد الإسلام
ولد عمر من جديد، كما ولد حمزة عملاقاً، فإن عمر أيضاً ولد عملاقاً.
ولد عمر فقيهاً حازماً مضحياً، فأول كلمة قالها بعد الإسلام كانت: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال: ففيم الاختفاء؟! وانتبه لما يقول: ألسنا على الحق؟ لا يقول: ألستم على الحق؟ فقد أصبح مسلماً، ويقترح عليهم آراء ويفكر لخدمة الدين، وينظر ما هو الأصلح، ويتحرك للدعوة، هذا هو عمر.
الاختفاء كما هو معلوم كان لأسباب، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يحسب كل شيء بدقة، يأخذ بكل الأسباب، أما الآن فعلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعيد حساباته مرة أخرى؛ لأن الوضع تغير من ثلاثة أيام مضوا، إن كان للاختفاء مزايا قبل ذلك فللإعلان أيضاً مزايا، فإيمان حمزة وعمر غير الوضع، والرسول صلى الله عليه وسلم وافق على الإعلان؛ لأن اثنين من رجال المسلمين غيرا مسار الدعوة بكاملها.
في هذه الفترة الحرجة سيبدأ إعلان الإسلام في مكة، ويظهر المسلمون الشعائر أمام الناس في مكة.
غير الرسول صلى الله عليه وسلم كل المرحلة عندما دخل حمزة وعمر في الدين، أخذوا القرار وخرجوا في نفس اللحظة في صفين: عمر على أحدهما، ولم يؤمن إلا منذ دقائق، وحمزة على الآخر، وما آمن إلا منذ ثلاثة أيام فقط.
سارت الكتيبة العسكرية الإسلامية من دار الأرقم إلى المسجد الحرام أكثر الأماكن ازدحاماً في مكة، حتى يراهم أكبر عدد من قريش، رأت قريش المسلمين وأمامهم حمزة وعمر فأصابتهم كآبة شديدة، يقول عمر: (فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق يومئذ.
نظر عمر إلى المسجد الحرام فلم يجد أبا جهل مع الناس، وهو أشدهم محاربة للإسلام، فقرر أن يذهب إليه في بيته، ويعلن له أمر إسلامه.
يقول عمر: فأتيته حتى ضربت عليه بابه، فخرج إلي وقال: مرحباً وأهلاً يا ابن أختي، فقال عمر: جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به، قال عمر: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به، لكن عمر كان سعيداً؛ لأنه كاد لـ أبي جهل.
وكان عمر يرى أنه ما زال هناك كثر لم يعلموا بعد بأمر إسلامه، ولن يذهب إلى كل واحد في بيته يخبره، فذهب لرجل اسمه جميل بن معمر الجمحي، وهو كما يقول سيدنا عمر أنقل قريش لحديث.
يعني: مثل وكالات الأنباء، لا يستطيع حفظ السر، لا يسمع شيئاً إلا ونقله للناس، فذهب سيدنا عمر إليه، وقال له: يا جميل! لقد أسلمت، فنادى جميل بأعلى صوته قائلاً: إن ابن الخطاب قد صبأ، يعني: ارتد، لكن سيدنا عمر جرى وراءه، وقال له: كذبت ولكني أسلمت.
المهم أن كل مكة علمت أن عمر قد دخل في دين الإسلام، وهذا هو المطلوب.ردة فعل أهل مكة بعد إسلام عمر وحمزة ومساومتها للرسول
اجتمع أهل مكة حول سيدنا عمر بن الخطاب وقاموا بضربه، فظل يضرب وهم يضربون حتى تعب رضي الله عنه وأرضاه وجلس على الأرض، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.
يعني: اصبروا علينا حتى نصل إلى ثلاثمائة، وهذا الرقم الذي قاله هو عدد المسلمين في غزوة بدر.
فـ عمر من أول يوم أسلم فيه ضرب، وكأن الله سبحانه وتعالى يعرفه طريق الدعوة وهو لا يزال في أول أيام إسلامه، كل الناس التي تحملت هم الدعوة تعبوا، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة! ومع أن عمر ضُرب في أول يوم من إسلامه إلا أن هذه كان ردة فعل استثنائية نتيجة للمفاجأة، ثم إن مكة رجعت للصواب فـ عمر تخاف منه الناس، ويؤكد على ذلك كلام صهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه، يقول: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقاً، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به.
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
ومع أن وضع المسلمين تحسن بهذه الصورة، وأصبح أهل الإسلام يظهرون عباداتهم وشرائعهم في مكة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلن الحرب على قريش، ولم يبدأ في مواجهة عنترية مع صور الباطل في مكة، وما زالت الأصنام منتشرة في مكة، بل ما زالت الرايات الحمر للزانيات مرفوعة في مكة، والخمور تشرب، والمشركون يعبدون آلهة غير الله عز وجل، والقتال ممنوع على المسلمين، وهذا من فقه المرحلة.
ربما يتحمس الشباب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوة والسلاح والعنف، يظنون أنهم في زمن التمكين والسيادة، وينسون أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كف عن كل هذا في فترة مكة.
الجرأة لو حصلت من شباب المسلمين في فترة مكة على المشركين لا تعد شجاعة ولا جهاداً إنما تعد تهوراً وتسرعاً وجهلاً بفقه المرحلة، وميزان المسلمين ثقل بـ حمزة وبـ عمر لكن بحساب.
وهي رسالة إلى كل المتحمسين من الشباب، ممن يعيشون ظروفاً مشابهة لظروف مكة، وأيضاً من غير حمزة وعمر، ومع ذلك يحدث تهور واندفاع، أقول لهم: كم تخسر الدعوات من حماسة في غير موضعها تماماً، كما تخسر من روية في غير موضعها.
إذاً: كان وضع المسلمين التعذيب، ولا يوجد قتال، وأيضاً لا توجد مواجهة مع المشركين في مكة، مع كون قوتهم زادت؛ لأن هناك الكثير في مكة سيفكر في الإسلام، وسوف يتحفزون بإسلام حمزة وعمر؛ ولأن المسلمين أعلنوا إسلامهم وبدءوا بالصلاة وقراءة القرآن أمام الناس، ومكة بدأت تنظر إلى حلاوة الإسلام وشرائعه.
وأهل الباطل كانوا في موقف صعب، وكأن الموضوع سيخرج من أيديهم، فالدعوة تتسلل وتدخل إلى كل بيت حتى بيوت الزعماء منهم، فماذا صنعوا؟ عقد أهل مكة اجتماعاً على مستوى القادة والزعماء، وحضره كل زعماء مكة، وتقدم عتبة بن ربيعة -زعيم بني أمية، وأحد حكماء قريش باقتراح، قال: يا معشر قريش! ألا أقوم إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا.ردة فعل أهل مكة بعد إسلام عمر وحمزة ومساومتها للرسول
اجتمع أهل مكة حول سيدنا عمر بن الخطاب وقاموا بضربه، فظل يضرب وهم يضربون حتى تعب رضي الله عنه وأرضاه وجلس على الأرض، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.
يعني: اصبروا علينا حتى نصل إلى ثلاثمائة، وهذا الرقم الذي قاله هو عدد المسلمين في غزوة بدر.
فـ عمر من أول يوم أسلم فيه ضرب، وكأن الله سبحانه وتعالى يعرفه طريق الدعوة وهو لا يزال في أول أيام إسلامه، كل الناس التي تحملت هم الدعوة تعبوا، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة! ومع أن عمر ضُرب في أول يوم من إسلامه إلا أن هذه كان ردة فعل استثنائية نتيجة للمفاجأة، ثم إن مكة رجعت للصواب فـ عمر تخاف منه الناس، ويؤكد على ذلك كلام صهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه، يقول: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقاً، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به.
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
ومع أن وضع المسلمين تحسن بهذه الصورة، وأصبح أهل الإسلام يظهرون عباداتهم وشرائعهم في مكة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلن الحرب على قريش، ولم يبدأ في مواجهة عنترية مع صور الباطل في مكة، وما زالت الأصنام منتشرة في مكة، بل ما زالت الرايات الحمر للزانيات مرفوعة في مكة، والخمور تشرب، والمشركون يعبدون آلهة غير الله عز وجل، والقتال ممنوع على المسلمين، وهذا من فقه المرحلة.
ربما يتحمس الشباب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوة والسلاح والعنف، يظنون أنهم في زمن التمكين والسيادة، وينسون أن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كف عن كل هذا في فترة مكة.
الجرأة لو حصلت من شباب المسلمين في فترة مكة على المشركين لا تعد شجاعة ولا جهاداً إنما تعد تهوراً وتسرعاً وجهلاً بفقه المرحلة، وميزان المسلمين ثقل بـ حمزة وبـ عمر لكن بحساب.
وهي رسالة إلى كل المتحمسين من الشباب، ممن يعيشون ظروفاً مشابهة لظروف مكة، وأيضاً من غير حمزة وعمر، ومع ذلك يحدث تهور واندفاع، أقول لهم: كم تخسر الدعوات من حماسة في غير موضعها تماماً، كما تخسر من روية في غير موضعها.
إذاً: كان وضع المسلمين التعذيب، ولا يوجد قتال، وأيضاً لا توجد مواجهة مع المشركين في مكة، مع كون قوتهم زادت؛ لأن هناك الكثير في مكة سيفكر في الإسلام، وسوف يتحفزون بإسلام حمزة وعمر؛ ولأن المسلمين أعلنوا إسلامهم وبدءوا بالصلاة وقراءة القرآن أمام الناس، ومكة بدأت تنظر إلى حلاوة الإسلام وشرائعه.
وأهل الباطل كانوا في موقف صعب، وكأن الموضوع سيخرج من أيديهم، فالدعوة تتسلل وتدخل إلى كل بيت حتى بيوت الزعماء منهم، فماذا صنعوا؟ عقد أهل مكة اجتماعاً على مستوى القادة والزعماء، وحضره كل زعماء مكة، وتقدم عتبة بن ربيعة -زعيم بني أمية، وأحد حكماء قريش باقتراح، قال: يا معشر قريش! ألا أقوم إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا.
وهي أمور مغرية، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي سيختار، وهذا يمثل تنازلاً خطيراً من زعماء قريش، يفسر الوضع الذي أصبحت فيه مكة بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، ومع أن هذا على غير هوى المعظم، إلا أنهم وافقوا مضطرين، قالوا: بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه.
ذهب عتبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فوجده جالساً لوحده بجانب البيت الحرام، فتلطف معه وابتسم وقعد وبدأ يتكلم، وكان ذكياً، وكلامه في عرف كل الناس لا يرفض، قال عتبة: يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمت من الثقة في العشيرة، والمكان في النسب.
يعني: مكانتك عندنا كبيرة، ونحن نحبك ونحترمك، وهذه طريقة ثعبانية مشهورة عند عتبة وعند أمثال عتبة.
ثم بدأ يذكر مراده، فقال: ومع مكانتك العالية إلا أنك عملت أشياء تعتبر في عرف مكة جرائم عظمى، فأنت متهم بكذا وكذا وكذا، وهذا شيء خطير وموقفك صعب! قال له: إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم.
يعني: أنت متهم بزعزعة نظام الحكم في مكة، فاترك الدين لأهله من الكهان وسدنة الأصنام، وإلا فإن مستقبلك في خطر، وأنت لك مكانة، وعندك أولاد، ونحن نريد مصلحتك ونحبك، ولأننا نحبك سنعرض عليك كذا وكذا من الاقتراحات فاختر منها ما يعجبك ونحن تحت أمرك.
إذاً: بهذه المقدمة الثعبانية يقدم له الاقتراحات المغرية، ويبين له أن رفضها معناه تأكيد هذه التهم الخطيرة في حقك، وأما عقابها فأنت تعلمه.حصار الشعب
بعد هذا الانهيار الكامل للمباحثات بدا وكأن حدثاً كبيراً سيقع، كان أبو طالب يراقب الموقف، ويرى أن قريشاً لن تسكت على هذا الذي حدث، وكان يخشى أن أحداً من سفهاء قريش يتهور ويذهب لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يحبه أكثر من أولاده؛ لذا لم يجد إلا حلاً واحداً، قام أبو طالب بسرعة ودعا بني عبد مناف بشقيها بني هاشم وبني المطلب- المطلب هو عم عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم- وطلب منهم أن يجتمعوا لحماية محمد صلى الله عليه وسلم، فأجاب جميع القوم مسلمهم وكافرهم حمية وقبلية وطاعة لكبيرهم أبي طالب، وبذلك انقسمت مكة إلى نصفين: بني عبد مناف في جهة، وبقية أهل مكة في جهة أخرى، وإذا كان أبو طالب يخاف من زعماء مكة، فأيضاً زعماء مكة يخافون من المسلمين، ولا قدرة لهم بهم بعد إسلام حمزة وعمر، فـ حمزة من فرسان قريش الأشداء، وعمر سفير مكة الرسمي، وبنو عبد مناف اتحدوا من أجل حماية الرسول صلى الله عليه وسلم، والطرق السلمية لم تعد تنفع، وفي نفس الوقت لا طاقة لهم بقتال الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من بني عبد مناف؛ لذا اجتمع كفار قريش من جديد وخرجوا بفكرة جديدة في حرب الدعوة وهي المقاطعة، سياسة الحصار الاقتصادي لبني عبد مناف، سياسة التجويع الجماعي لبني عبد مناف، سواء كانوا مسلمين أو كفاراً.
ومع العلم أن هذا القانون الجديد يعتبر مخالفاً لأعراف مكة وقوانينها السابقة، لكن لا توجد مشكلة في أن يتغير الدستور، فكل شيء بأيديهم، فلا يهم الشهر الحرام ولا البلد الحرام، المهم المصالح فهي ما يقدم على الأعراف والقوانين، فلا مبدأ، ولا قانون ولا حتى عهد يُحترم.
كتبوا قانون المقاطعة، وفيه: على أهل مكة بكاملها في علاقتهم مع بني عبد مناف ألا يناكحوهم.
أي: لا يتزوجوا منهم ولا يزوجهم.
وألا يبايعوهم.
أي: لا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم.
وألا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يدخلوا بيوتهم ولا يكلموهم، وألا يقبلوا من بني هاشم وبني المطلب صلحاً أبداً، ولا تأخذهم بهم رأفة؛ حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم للقتل.
هكذا بمنتهى الوضوح.
وبدأ تنفيذ الحصار الرهيب في أول ليلة من ليالي المحرم في السنة السابعة من البعثة، ودخل بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلى شعب أبي طالب ومعهم الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى يتجمعوا كلهم حول الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحموه من أهل مكة.
ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة من المعاناة والألم، فقد قطع الطعام تماماً عن المحاصرين، فلا بيع ولا شراء، حتى الطعام الذي يأتي مكة من خارجها يشتريه الكفار بسعر عال؛ حتى لا تستطيع بنو عبد مناف شراءه، وأصبح الموقف صعباً، فقد أخذوا الأولاد والنساء في داخل الشعب؛ حتى كان يسمع أصوات النساء والصبيان يصرخون من الجوع، وحتى اضطروا إلى أكل أوراق الشجر، وظلوا كذلك ثلاث سنين كاملة! من محرم في السنة السابعة من البعثة إلى المحرم سنة عشر من البعثة، مأساة بشرية حقيقية.
ثلاث سنوات من الظلم والحصار الجماعي، صورة جاهلية تكررت كثيراً بعد ذلك في الدنيا، نعم اخترعها أهل قريش في ذلك الوقت، لكن للأسف حصلت كثيراً ودائماً مع المسلمين، تكررت في العراق وفي ليبيا والسودان وأفغانستان والصومال وإيران ولبنان وفلسطين، كثير من المسلمين يحاصرون في بقاع الأرض.
ليس الغريب في هذا الحصار أن يضحي المسلمون من بني هاشم وبني المطلب بأنفسهم وبزوجاتهم وبأولادهم؛ لأنهم يقاتلون من أجل عقيدة، لكن الغريب فعلاً أن يصبر الكافر من بني هاشم وبني المطلب على هذا الحصار وهو لا يرجو جنة ولا يخاف من نار، بل لا يؤمن بالبعث، ومع ذلك وقفوا هذه الوقفة الرجولية مع مؤمني بني عبد مناف، لكنهم وقفوا هذه الوقفة حمية، حمية الكرامة أن يهان رجل من نفس القبيلة، حمية الدم والقرابة، حمية العهد الذي قطعوه على أنفسهم قبل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتعاونوا سوياً في حرب غيرهم، حمية واقعية ليست بالخطب والمقالات والأشعار، وضحوا بأنفسهم وأولادهم وزوجاتهم من أجل كلمة.فك حصار الشعب
بعد ثلاث سنوات من حصار الشعب شاء الله عز وجل أن يفك الحصار، وذلك بأن أحد المشركين من بني عامر بن لؤي، لا هو من بني هاشم ولا من بني المطلب أحس بشيء في صدره، وهذا الرجل هو هشام بن عمرو، ظل يسأل نفسه: كيف نأكل ونشرب وهؤلاء لا يأكلون ولا يشربون؟ كيف ينام أطفالنا شابعين وهؤلاء ينام أطفالهم جائعين؟ فكان يحمل الطعام بنفسه سراً إلى شعب أبي طالب، وظل على ذلك فترة، وبعد ذلك أحس بأن ذلك ليس بكاف، ولابد أن يكون هناك موقف أكبر، وأن يفعل شيئاً حتى ينقض هذه الصحيفة، ويلغي هذا القانون الظالم، ولكن هو لوحده وقبيلته ليست كبيرة، كما أن زعماء مكة كلهم يقفون خلف هذا القانون.
بدأ يبحث عمن يساعده، فبدأ برجل من بني مخزوم أكبر القبائل القرشية، وهي قبيلة اعتادت أن تعارض بني هاشم وتتنافس معها، فإذا قبلت هذه القبيلة بفك الحصار فبقية القبائل ستفك الحصار في الغالب، لكن من الذي سيرضى من بني مخزوم بالوقوف مع بني هاشم ضد بني مخزوم، ولا ننسى أن أبا جهل هو زعيم بني مخزوم، وهو من أشد المتحمسين للمقاطعة، فكان لابد من شخصية تعادله، وتستطيع الوقوف أمامه، فذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومي؛ لأن أمه عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلديه دوافع فطرية عصبية، فذهب إليه وكلمه، فقال له: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتشرب الشراب وأخوالك حيث تعلم.
يعني: هؤلاء أخوالك وأنت تتبع أبا جهل؟ هل نسيت أن بني هاشم أخوالك؟ ثم قال له كلمة خطيرة جداً، قال له: أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام -يعني: أخوال أبي جهل - ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه من المقاطعة ما أجابك إليه أبداً.
يعني: أنت بذلك تخاف من أبي جهل، فقال له زهير: ويحك ما أصنع وأنا رجل واحد؟ ثم قال: أما والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها، فقام هشام بن عمرو وفاجأه وقال له: وجدته لك، قال: فمن هو؟ قال: أنا، قال زهير: فلننظر لنا ثالثاً أيضاً.
ترك هشام بن عمرو زهيراً وذهب يبحث عن ثالث من ذوي الأخلاق، ذهب إلى المطعم بن عدي من بني نوفل، -أتى بقبيلة ثالثة، ذهب إليه وذكره بأرحام بني المطلب وبني هاشم، فقال المطعم: ويحك ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانياً، قال: من هو؟ قال: أنا، قال المطعم: ابحث لنا عن رجل ثالث؟ فقال: قد فعلت، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابحث لنا عن رجل رابع.
المهمة صعبة جداً؛ لأن هؤلاء سيقفون أمام كل زعماء الكفر في مكة، ومن أجل رجل خرج عن دينهم، ويقوم بشتم الآلهة، ويأتي بقوانين جديدة لمكة، مهمة صعبة فعلاً أن تدافع عن هذا الرجل، وعن أولئك الذين ساعدوه والتزموا بدينه.
لكن هشام بن عمرو الكافر لم ييأس، وذهب يبحث عن رابع، فذهب إلى أبي البختري بن هشام -البختري بفتح الباء- وقال له مثل ما قال للمطعم، فقال له: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال هشام: نعم، زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا، فقال أبو البختري: ابحث لنا عن رجل خامس؟ فذهب هشام بن عمرو بمنتهى الحمية يبحث من جديد عن رجل خامس، ذهب إلى زمعة بن الأسود وهو من بني أسد، فقال له زمعة: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم ذكر له الأربعة السابقين، فوافق زمعة بن الأسود الأسدي ولم يطلب السادس، واجتمع الخمسة وأخذوا القرار الجريء الذي سيعارضون به أكابر القوم، فهم سيطرحون رأياً قد يؤدي إلى انقسام حاد في المجتمع المكي ونصرة دين لا يقتنعون به ولا يرتبطون.
لماذا هذا كله؟ ما الذي حركهم؟ حركتهم حمية النخوة، فأنت ترفض أن ترى أي إنسان مؤمناً كان أو كافراً يعذب أو يظلم أو يجوّع أو يعطِّش.
هذه النخوة التي زرعت في قلوب أناس ما عرفوا الله عز وجل، لكن هذه النخوة للأسف لم نرها من مسلمين كثر رأوا وشاهدوا بأعينهم جرائم الحصار والقتل في آلاف وملايين المسلمين في العراق والبوسنة وكوسوفا والشيشان وفلسطين وغيرها.
كيف أن هشام بن عمرو الكافر والكفار الذين معه لم يأتهم نوم؛ لأن المسلمين يعذبون؟ وكيف يوجد في الأرض مسلمون ينامون ويأكلون ويشربون ولا يهمهم ما يحدث لإخوانهم وأخواتهم في أكثر من مكان في العالم؟! كيف؟! أين النخوة التي تحركت في قلوب الكافرين الخمسة؟ أين النخوة التي دفعتهم لمعاداة قريش دون مصلحة شخصية متحققة؟ أيأتي على المسلمين زمان نرجو فيه أن تكون أخلاقهم كبعض أخلاق الكافرين، نحن نحتاج فعلاً إلى وقفة مع النفس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق