نحن هنا في بلادنا
التاريخ 5 يناير سنة 1856، والمكان قصر محمد سعيد "باشا" والي مصر ... يقف "فردينان دلسيبس" بين يدي الخديوي في خشوع مصطنع حتى ينتهي الخديوي من بصم المخطوط الرهيب، الذي يفوض المهندس الفرنسي في حفر برزخ قناة السويس.
يتناول دلسيبس المخطوط، ويمضي على الفور في تنفيذ المشروع الكبير مستغلا كل إمكانيات الشعب المصري ... مستنزفا أمواله ودماءه.ونقلب صفحة أخرى من التاريخ ... فيطالعنا وجه بريطانيا الكئيب وهي تطل في ترقب على أمواج البحر الأبيض والبحر الأحمر وهما يتعانقان عبر البرزخ الكبير ...
فتتحرك مطامعها التقليدية، وتدفع بكل قواها لتزاحم الفرنسيين، وتخلع أقدامهم من مصر حتى لا تتكرر حملة "بونابرت" من جديد.
وبعد مناورات ومؤامرات يتقدم الأسطول البريطاني يوم 22 يوليه سنة 1882 ليطوق مصر في البحر، وكانت حجته أن الحكومة المصرية تقيم تحصينات وقلاعا على شواطئ الإسكندرية، وأن هذه القلاع تغيظ بريطانيا وتتحداها!
أرسلت بريطانيا إنذارا إلى الحكومة المصرية تطالبها بوقف التحصينات وإلا!
وكان رد رئيس الحكومة درويش باشا ووزرائه رائعا رائعا وقويا قالوا "نحن هنا وفي بلادنا، ومن حقنا بل واجبنا أن نصونها ضد كل عدو يبادئنا بالعدوان.
إن مصر بالمحافظة على شرفها وعلى حقوقها لا تستطيع أن تسلم أي مدفع أو أية قلعة مهما تكن إلا إذا اضطرتها الحرب ..".
لم يعبأ الإنجليز بهذا التحدي، وأصدروا أوامرهم لقواتهم على مصر، ووقف الشعب المصري يدفع بكل قواه غارة الوحوش البيض .. وهنا برزت الخيانة في شخص الخديوي توفيق، فأصدر تصريحه المشئوم يوم 31 يوليه سنة 1882 الذي جاء فيه "يصرح لكم باحتلال كل نقط برزخ السويس، التي ترونها مفيدة لحرية المرور في القناة وحماية المدن والسكان المجاورين، وتحطيم كل قوة لا تعترف بسلطتنا".
وتحتل مصر .. وتحشد قوات بريطانية ضخمة على ضفة القناة الغربية .. وتعلن بريطانيا أنها ليست أكثر من حارس يقوم على حماية حرية الملاحة في القناة ... ويصدر "جرانفيل" منشورا يطمئن فيه الدول الكبرى على حرية الملاحة ..
ولكن الدول الكبرى يساورها القلق، فتعقد اجتماعا في الآستانة يضم ثماني دول كبرى .. وفي أول أكتوبر سنة 1888 م تبرم معاهدة من سبعة عشر بندا تنص على ضمان الملاحة في القناة .. ولكن الإنجليز يضيفون فقرة بسيطة إلى المعاهدة، وبذلك ينسخون كل شيء فيها تقول الفقرة البسيطة "إن هذه التدابير التي تتخذها الدول الكبرى لا تعد واجبة التطبيق بشكل يعرقل حقوق القوات البريطانية التي تحتل مصر، أو يعطل حريتها في العمل".
وتمضي عجلة الزمن .. وعلى الطريق الطويل يشهد العالم الصراع الجبار بين شعب أعزل وبين أقوى إمبراطورية معاصرة ... وتسجل الأيام مواقف بطولية رائعة لرجال بذلوا أرواحهم في سبيل أمتهم ... كما تسجل آسفة على لوحة سوداء أسماء الخيانات الوطنية..
والقصة تطرح في أمانة دور الشباب وهو يصدر في عزم قرارا مسلحا بطرد بريطانيا من مصر ... وتعطي كل ذي حق حقه في أحكام أقرب ما تكون إلى أحكام القضاء ...
والقصة .. بعد أن تسجل الأحداث، وتدون المواقف ترسل إشعاعا من نور على الطريق الطويل المظلم الذي تعبره أمتنا في أدق مرحلة من مراحلها ..
فما هي القصة ...
مصر تتحدى حلف الأطلنطي
"لن ندخل في دائرة الأحلاف أيا كان طريق الدخول إليها ولو بحجة الدفاع عن الشرق الأوسط".الشعب المصري سنة 1951
إلغاء المعاهدة وتهديدات بريطانيا
في اليوم السابع من أكتوبر سنة 1951 م ألغت الحكومة المصرية معاهدة الصداقة والتحالف مع بريطانيا كما ألغت اتفاقية 1899م الخاصة بالسودان .. وقال رئيس الوزراء وقتها "مصطفى النحاس باشا" من أجل مصر وقعت معاهدة سنة 1936 ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها" ... ووافق البرلمان على إلغاء المعاهدة.كان إلغاء الحكومة للمعاهدة صدمة كبيرة لبريطانيا ولحلفائها، خاصة فرنسا، وعلى الفور عقد اجتماع بينهما وصدر بيان إنجليزي فرنسي بعدم الموافقة على قرار مصر بإلغاء المعاهدة.
ولم تنتظر أمريكا كثيرا بل عجلت بتحديد موقفها، وأعلن وزير خارجيتها "دين أتشيسون" في مؤتمر صحفي عن عدم موافقة حكومته على قرار الحكومة المصرية وطالبها بالتمهل ..
ثم جاءت أول خطوة عملية من حاكم السودان الإنجليزي "تشالز كسنجر" الذي تحدى قرار مصر بإلغاء المعاهدة، وبالتالي ضم السودان لتاج مصر ... ولكن الحاكم فوجئ بموافقة الأحزاب السودانية والشعب السوداني على إلغاء المعاهدة وما يتبعها من آثار.
حلف الأطلنطي يتحرك
لم تمض ساعات على قرار الحكومة المصرية بإلغاء المعاهدة ... وقبل تصديق الملك عليها ... حتى تحركت كل قوى الأطلنطي تتحدى القرار المصري ... وعقد أيزنهاور قائد عام حلف الأطلنطي اجتماعا حضره "عمر براديللي" ورؤساء حرب القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية لدراسة موقف مصر ..وفي نفس اليوم أعلنت الحكومة البريطانية إلغاء إجازة الجنود والضباط في منطقة القناة، كما أعلنت حالة الطوارئ في جميع قواتها.
وفي اليوم التالي أي يوم 11 أكتوبر وجهت بريطانيا إنذارا إلى مصر تحملها فيه مسئولية أرواح القوات البريطانية في القناة.
وفي حمى الغضب أصدرت بريطانيا أعجب قرار لها، وهي أنها سوف تدافع عن مصر "ضد أعدائها" حتى وإن رفضت مصر .. وطبعا لم يكن الأعداء أكثر من خيالات وأشباح في رأس الدولة العجوز ...
ولما هدأت الحمى قليلا وعادت بريطانيا لحكمتها التقليدية وخبثها، قالت لمصر إنها مستعدة لإجلاء قواتها عن القناة إذا قبلت مصر الاشتراك في الدفاع عن الشرق الأوسط ...
وكان آخر سهم في جعبة بريطانيا وحلفائها تلك المقترحات التي تقدمت بها إنجلترا وأمريكا وفرنسا وتركيا لمصر وهي "موافقة مصر على المساهمة في الدفاع عن الشرق الأوسط" ...
وجاء في ديباجة المقترحات "ما دامت مصر تنتمي للعالم الحر فإن الدفاع عن الشرق الأوسط يعتبر أمرا حيويا لها وللأمم الديمقراطية الأخرى".
ولم تنتظر مصر كثيرا لترد على مقترحات الحلفاء لأن الشعب المصري كان معبأ للغاية ... كما لم يكن في وسع الحكومة أو القصر التصدي لإرادة الجماهير الثائرة، وكان رد الحكومة واضحا وهي أنها "لن تدخل في دائرة الأحلاف أيا كان طريق الدخول إليها ولو بحجة الدفاع عن الشرق الأوسط".
كان هذا موقف الحكومة الرسمي تحت ضغط الشعب الثائر، ولكنها لم تكن تتوقع أن يقدم الشعب على خطوات إيجابية ..
فبعد يوم واحد من رد الحكومة على مقترحات الحلفاء، سدد العمال المصريون أول ضرباتهم، وكانت من عمال السكة الحديد الذين يشتغلون في منطقة القناة، فقد اتخذوا قرارا إجماعيا بعدم نقل الجنود البريطانيين إلى معسكراتهم ... فأصاب الشلل كل المعسكرات وتوقفت حركة الخدمات داخل المخيمات فجن جنون الإنجليز وأخذوا يطلقون نيرانهم على الأهالي بلا وعي.
هذه الأحداث المتلاحقة من الجانبين وضعت الحكومة في حيرة وقلق، فهي لم تكن تتوقع موقفا إيجابيا من الشعب ... كما لم تكن تضع في حسبانها تصرفات القوات البريطانية ... ففكرت في اتخاذ موقف شبه حيادي فدعت إلى تنظيم مقاومة سلبية ..
"على مذهب غاندي في الهند" إلا أنها لم تكن تعرف حدود هذه المقاومة، كما لم تكن على استعداد للمضي فيها، فالشعب المصري كان قد فقد الثقة في كل زعمائه .. كما فقد الثقة في كل الأساليب السلمية "والمتعقلة" ... كان الشعب مستعدا للتضحية لأبعد حد فداء لحريته واستقلاله، بعد أن تحمل ثمانين سنة من المعاناة والآلام.
ومضت الأحداث سريعة ومتلاحقة تتدافع من تلقاء نفسها.
وجاءت الخطوة التالية من القوات البريطانية التي خرجت من معسكراتها وضربت الحصار حول الجمارك في القناة ... واستولت على إحدى ناقلات البترول كانت تستعد لتفريغ حمولتها ... وكان المقصود بهذه العملية شل حركة النشاط في الدولة وتعطيل المواصلات ... وكانت أقسى ضرباتهم احتلال كوبري الفردان، وبذلك قطعت المواصلات بين شرق القنطرة وغربها.
وفي 18 أكتوبر أي بعد ثلاثة أيام من تصديق الملك على إلغاء المعاهدة وصلت حاملة طائرات بريطانية إلى القناة وتبعتها قوة مظلات ...
تشرشل في المعركة
وتضامنا مع الخطة العسكرية المتكاملة بدأ الإنجليز يشكلون سياستهم الداخلية وفقا للظروف الجديد ... فدفعوا بداهية السياسة والحرب "السير ونستون تشرشل" إلى الحكم ليرأس حكومة محافظة متعصبة ... جاءوا بالرجل الذي استطاع بدهائه أن يهزم المحور في الحرب العالمية الثانية ... وكانت أول خطوة اتخذها تهديد مصر بالاحتلال الكامل ...ولكن الشعب قابل التهديد بمزيد من التجمع والاستعداد وكان أسرع رد عليه امتناع العمال المصريين عن تفريغ السفن الإنجليزية ... فاضطر الإنجليز صاغرين لرفع علم إيطاليا على سفنهم كساتر لهم إلا أن العمال فطنوا للخدعة ورفضوا تفريغ السفن ...
ولقد استطاع العمال أن يسجلوا مواقف بطولية رائعة في المعركة .. فلم يكتفوا بالمواقف السلبية كعدم تفريغ السفن أو تعطيل المواصلات ولكنهم لجأوا لعمليات فدائية داخل المعسكرات كإشعال الحرائق والاستيلاء على الأسلحة وخطف الجنود ... ووجد الإنجليز أن الأمر لم يعد في وسعهم احتماله .. فقاموا بغارات همجية على تجمعات العمال في منازلهم بالسويس والإسماعيلية، وأخيرا كانت مفاجأة الحكومة الإنجليزية بقرار سحب العمال من المعسكرات ...
والواقع أننا فرحنا وقتها بهذا القرار، ولكنني أعتقد الآن أنه لم يكن قرارا حكيما لأن العمال كان في وسعهم تدمير المعسكرات من الداخل ومساعدة العمل الفدائي الزاحف من الخارج ولعل الصدى الكبير الذي أحدثه قرار الحكومة يشفع لها في تصرفاتها ...
فلقد شلت كل ضروب النشاط في المعسكرات .. واضطر السادة الإنجليز! لخدمة أنفسهم بعد أن كانت الأيدي السمراء تعمل جاهدة في خدمتهم! ولم يكن هذا الأمر سهلا عليهم .. خاصة بالنسبة للمواصلات ويكفي أن نتصور الآن منظر القطارات وهي راقدة كتوابيت الموتى في داخل المعسكرات.
كان طبيعيا بعد توقف العمال عن العمل أن تتوقف الإمدادات عن الإنجليز خاصة الخضراوات والفواكه فلجأوا لأسلوب آبائهم في القنص فقطعوا الطريق على السيارات المحملة بالخضراوات وسرقوا ما بها، واستمر الحال على هذا الوضع، ضربات عشوائية متقطعة من الطرفين، ومجهول لا يستطيع أحد استكشافه.
هذه لقطة سريعة عن حالة المعسكرات الإنجليزية في القناة بعد إلغاء المعاهدة ولنحاول في عجالة أن ننفذ إلى قلب مصر السياسي لنتحسس نبضها.
القصر والأحزاب والشيوعيون والإخوان
كانت أحداث القناة وتحرشات الجنود بالمواطنين، وضربات العمال المتلاحقة للعدو تشعل حماس الشباب في كل مكان، الطلبة والعمال والموظفون .. والفلاحون .. كل الشعب كان يغلي كالمرجل .. مظاهرات في المدن وانفعالات في الريف ...وانطلقت الصحافة تلهب حماس الشعب وتلتها الإذاعة التي تحولت إلى منابر للخطابة، واستطاع الشعب أن يمزق كل أرديته الحزبية القديمة ونسي في غمرة الحماس انتماءاته الحزبية، وطرح عن كاهله كل الزعماء الذين كانوا يتلاعبون به ويسخرونه لمصالحهم ... ولكنه مع هذا لم يشأ أن يشغل نفسه بخوض معارك معهم، حتى يتفرغ لمعركته ضد العدو الأخطر ... حتى الملك الذي بلغت كراهية الشعب له ذروتها خاصة بعد فضيحة أسرته وزواج أخته بأحد المسيحيين ...
استطاع الشعب أن يصطنع معه هدنة مؤقتة فسكتت الهتافات ضده ولكن لم ترتفع الهتافات له، كما كان يتوقع بعد موافقته على إلغاء المعاهدة ... أما مصطفى النحاس فكان أقصى أمله أن يغفر له الشعب سقطته سنة 1942 يوم أن فرضه الإنجليز بدباباتهم على الحكم – أراد النحاس أن يتطهر من ماضيه أمام الشعب، وفي نفس الوقت كن يقوم بحركة تطويق ضد العرش ...
إلا أنني لا أعتقد أنه كان يفكر في ثورة لخلع الملكية ... كان قصارى أمله أن يعزل الملك في قصره ويتحكم هو في البلاد وكان الملك يعرف هذا تماما إلا أنه كان يخشى أن يخرج الأمر من يد الوفد، وتتمكن قوة أخرى كالجيش أو الإخوان المسلمين من القفز على رأس الملك والنحاس معا ... أما الأحزاب الأخرى فآثرت الانطواء والترقب ولم يكن في وسعها إلا أن تظهر رضاها عن ثورة الشعب .. ولعلنا نكون منصفين إذا قلنا إن الحزب الوطني كان من أسبق الأحزاب تأييدا لحركة الشعب ..
ولكنه كان يفتقد القاعدة الشعبية ... والتنظيم ... أما حزب مصر الفتاة أو الحزب الاشتراكي كما كان يسمي نفسه فقد حرص على الاستفادة من الموقف ... وعلى صفحات جريدته نصب أحمد حسين نفسه قائدا للمعركة .. والواقع أن الحزب الاشتراكي كانت تصرفاته لا تنبئ عن الجدية ... كما كان أساليبه للدعاية لا تثير احترام المواطنين، ومع هذا كانت تستهوي الكثير من الشباب ...
ولعلي أذكر قصة طريفة كانت مثار سخرية الجميع من الحزب الاشتراكي ... فلقد استطاع أحد أبناء الشرقية أن يدفع بخبر مكذوب وهو استشهاد شاب اسمه هدهد ... فالتقطت الصحيفة النبأ وذكرت قصة استشهاد وهمية ومعركة وهمية كذلك، وأكدت أن هدهد هذا من طلائع الحزب .. وإني بسبيل تسجيل حقائق تاريخية لا أحب أن أغمط دور أحمد حسين في إثارة حماسة الشباب كما لا أستطيع أن أنكر عليه وطنيته، لكنني أعتقد أن أسلوب أحمد حسين والذي تبناه الكثير من شبابه كان يميل للتطرف والمبالغة.
ومن حق القارئ أن نستعرض أمامه نشاط الحركة الشيوعية في مصر إبان معركة القناة .. والحركة الشيوعية تواجدت في مصر بزعامة "هنري كوريل" الصهيوني ... وكانت الحركة قد تجاوزت مرحلة السرية إلى أن ظهرت على السطح .. وبدأ الشيوعيون يعلنون عن أنفسهم في كل مكان .. حتى في المحاكم كانوا يعلنون عن تكوين حزبهم الشيوعي ... ولكنهم كانوا يعانون كثيرا من وجود حركة الإخوان المسلمين التي كانوا ولا يزالون يعتبرونها من أشد الحركات عداوة لهم ..
كانوا يقولون إن "الإخوان والعدس" من أسباب تعويق الحركة الشيوعية في مصر ... ويقصدون بالعدس، أن العامل أو الفلاح الفقير يستطيع أن يشبع من العدس بمبلغ زهيد وبالتالي لا يشعر بالجوع الذي يدفعه للشيوعية ... أما موقف الشيوعيين من المعركة فكان يتلخص في إثارة الشباب ودفعهم للحرب، إلا أنهم كانوا يبخلون بدماء أبنائهم من أعضاء الحزب ... كانت فلسفتهم الاستفادة من دم غيرهم لصالح المد الشيوعي .. وفي نفس الوقت كانوا حريصين على توريط الإخوان واستنفاد طاقاتهم في حرب وطنية ضد الإنجليز حتى يسهل ضربهم بعد ذلك.
ولعل من الإنصاف أن نتكلم عن الإخوان المسلمين .. وأقول هنا وأنا أتعرض لحركة الإخوان، إنني سأحاول أن أكون قاضيا يصدر حكما يتحرى أن يكون عادلا لا محاميا مهمته الدفاع عن جماعة ارتبط بها مصيريا وذاق حلوها ومرها على طريق الحياة ... وأذكر أنني قلت في أول خطاب لي في الجامعة إنني سأخلع ردائي خارج حرم الجامعة وطالبت كل الشباب أن يأخذوا أنفسهم بسياسة التجرد للحركة الوطنية متناسين كل ارتباطاتهم الحزبية ...
ولكن هل التزم الشباب وهل التزمت أنا بهذا الشعار، الواقع أنني بذلت قصارى جهدي في سبيل أداء الأمانة التي حملتها .. ولكن لم أستطع أن أجرد إخواني من عواطفهم الإخوانية ... أما الحزبيون فكان كل واحد منهم مشدودا بخيوط تربطه بناديه، ولكن ليس يعني هذا أنني أتهم كل الشباب الحزبي بل إن كثيرا منهم نفض يده من انتمائه الحزبي، وتجرد لخدمة أمته ...
وأعود لحركة الإخوان وأقول إن الإخوان كانت في سنة 1951 تحاول أن تسترد نشاطها وتجدد نفسها بعد محنة سنة 1948 والتي انتهت باستشهاد مرشدهم الأستاذ حسن البنا، ثم إنها كانت تعيش تجربة قيادة من لون جديد وصيغة جديدة ... قيادة صامتة هادئة تتمثل في المستشار الأستاذ حسن الهضيبي ... والذي كان يلتزم بأسلوب القاضي في معالجته للقضايا التي تعرض عليه .. ولم تكن له قدرة حسن البنا في مخاطبة عواطف الشباب ومشاعرهم ...
والرجل لم يكن راغبا في منصبه الجديد بل قبله راغما تحت ضغط بعض قادة الجماعة الذين كانت نظرية تساوي الرؤوس تكاد تجعلهم في وضع لا يسمح لهم بإعطاء الولاء لأحدهم، فكانت فكرة اختيار الهضيبي هي الحل الأمثل للضغط على جميع المشاكل الداخلية ... لكن هل حققت هذه الفكرة المطلوب منها ...
الواقع يقول إن الظروف والأحداث المتلاحقة وظهور أحداث يوليو سنة 1952 والصدام المتلاحق بين الثورة والإخوان لم ولن تمكننا من إنصاف الحقيقة .. فالهضيبي عاش عمره في الإخوان في ظلال محن وأحداث إلا أنه لم يعش تجربة التوجيه والإرشاد التي مارسها حسن البنا من سنة 1928 إلى أن استشهد في سنة 1948، أما في معركتنا هذه فإن الرجل أعطاها كل طاقاته، وقدم لها ابنه إسماعيل كمشاركة فعالة فيها ...
إن هذا القدر يكفينا هنا، ونحن بسبيل التعرض لموقف الإخوان من حرب سنة 1951، سنة 1952 .... وقبل أن ننتهي من تحليل موقف الإخوان، لا ينبغي أن ننسى أثر حرب فلسطين سنة 1948 في أحداث حرب القناة، ويكفيني أن أقول إن حرب سنة 1951 كانت امتدادا لما جرى شرق القناة في فلسطين، فالذين تولوا القيادة والتدريب وممارسة العمل في القناة هم من خريجي حرب سنة 1948 وبعض الأسماء تصدق قولي فكامل الشريف وعلي صديق وعبد الرحمن البنان وحسن عبد الغني وعبد العزيز علي ومئات آخرون لا يتسع المقام لذكرهم ..
وكاتب هذه الكلمات كانوا من الذين تمرسوا في حرب سنة 1948 – نضيف إلى هؤلاء بعض الطلبة الذين سبق لهم التدريب في الإخوان والذين دخلوا في عمليات فدائية رائعة ضد القوات البريطانية التي كانت ترابط في بعض مناطق القاهرة وضواحيها، ويسجل التاريخ أو لا يسجل أسماء هؤلاء الرجال فهم أكبر من أن يعيروا آذانهم للمنصفين أو المتنكرين للحقائق.
نعود للحديث عن جماعة الإخوان لنقول إنهم كانوا أصحاب أكبر دور في معارك القناة ويرجع هذا لعدة أسباب لم تتوافر لغيرهم، ذكرنا منها سابق تدريبهم في حرب فلسطين، ثم حافزهم الإسلامي الذي أعطاهم طاقات رائعة ضربت أروع الأمثال في حرب فلسطين، فإذا أضفنا لكل هذا التنظيم الدقيق الذي أبدع فيه أيما إبداع الشهيد حسن البنا، لقلنا إنه كان طبيعيا أن يأخذ الإخوان مكان الصدارة في الحركة الوطنية – برغم الصعوبات الكبيرة التي كانوا يواجهونها من مختلف الحكومات.
يتبقى بعد ذلك دور الجيش والبوليس، فإذا بدأنا بالبوليس لكفانا موقفه الرائع يوم 26 يناير في الإسماعيلية، فإذا ذكرنا رجال البوليس أفرادا لكنا ظالمين إذا لم نسجل بالإعجاب لشريف العبد، وعبد الغني أبو دومه وآخرين من الذين لم تسعفني ذاكرة عشرين سنة تقريبا وتسجيل أسمائهم ...
أما الجيش فكان يغلي من داخله، وكانت أحداث سنة 1948، ومأساة الذخيرة الفاسدة، وخيانات بعض الحكومات من أهم العوامل التي دفعت ببعض الشباب المتحمس لخلق تكتلات وخلايا سرية، كان بعضها امتدادا لخلايا الإخوان، والبعض الآخر وليد انفعال وطني، حتى الملك نفسه بدأ بتكوين جهاز سري في الجيش "لمقاومة الحركات الوطنية المتصاعدة أو تضليلها .. ولعل حادث مصرع الضابط عبد القادر طه في الروضة كان من الأعمال "الفدائية الملكية" ...
ومع كل الظروف التي تحيط بي الآن ومن قبل إلا أنني أرى أن أسجل في أمانة موقف الضباط الأحرار من أحداث سنة 1851/ سنة 1952 ... وقد لمست بنفسي مواقف مشرفة وبطولية لبعض هؤلاء الضباط ...
أذكر منهم صلاح هدايت وزير البحث العلمي سابقا والذي لازم معسكر الجامعة من أول يوم وكان يتولى قسم المواد الناسفة والألغام والمفرقعات ... بل إنه كان يقوم بتصنيعها داخل معسكرات الجيش أو في معامل كلية العلوم بمساعدة زملائه طلبة كلية العلوم ...
وقد اشترك صلاح هدايت في مشروع إغلاق قناة السويس والذي لم يتحقق لظروف فنية، فكان هو والصاغ وصلاح شادي، وآخرين من رجالات الإخوان مكلفين بنسف سفينة بترول عند كوبري الفردان لتعطيل الملاحة في القناة، وقد شارك في هذه العملية أنور السادات وعبد اللطيف بغدادي اللذان نقلا بعض المعدات بطائراتهم إلى مواقع العمليات.
كما أسجل لمجدي حسنين دوره الكبير في تدريب طلبة الجامعة عند الكيلو رقم (19) ... وكان كمال الدين حسين من المترددين بكثرة على معسكر الجامعة ... ولعل من الإنصاف أن أسجل للواء المهندس محمود خليل (وهو لم يكن من الضباط الأحرار) موقفه الرائع، فقد تطوع الرجل بإمدادنا بشحنة من الألغام والمواد الناسفة حصل عليها بطريقته الخاصة من خزائن الجيش ...
أقول إن الجيش كان متفاعلا مع الحركة الوطنية وكان يقدم لها وقودها من الأسلحة والذخائر وقد تم هذا كله في سرية تامة، وتكتم يثيران الإعجاب .. والأمر الذي لا ينكره أحد أن الجيش كان معبأ لخوض المعركة إلى جوار الشعب، كما كان معبأ في مواجهة الملك الذي هوت سمعته إلى الحضيض خاصة بعد فضائحه (الأسرية، وموقفه من زوجته الأولى) وإسرافه وبذخه، هذا عدا مواقفه السياسية التي كانت تتعارض مع إرادة الجماهير ...
هذا استعراض سريع لموقف الأحزاب والهيئات والبوليس والجيش من حركة القناة .. سيعترض علي البعض قائلا وأين العمال والفلاحون والموظفون، إنني عرضت في مطلع حديثي لموقف عمال القناة، أما موقف العمال بصفة عامة فكان رائعا وعظيما إذا استعرضناه في القاعدة العريضة، لكن الحركة العمالية كنقابات لم تكن قادرة على اتخاذ مواقف مؤثرة، وذلك بسبب الضربات المتلاحقة التي كانت تتلقاها من القصر والأحزاب، فإذا ذكرنا الفلاح المصري فمن الضروري أن نتتبع مشكلاته من آلاف السنين ثم نحكم بعد ذلك على موقفه ...
وفي إيجاز نقول إن الفلاح كان مغمض العينين عن أحداث وطنه وكانت أمراضه الثلاثة الجهل والفقر والمرض من أسباب عزلته عن حركة الشعب ... هذا بالإضافة إلى أن وسائل الإعلام الموجهة حرصت على إبعاده عن خضم الحياة السياسية ... فإذا أضفنا لهذا كله المشاحنات الحزبية، والصراع حول العمدية، وكراسي مجلس الشيوخ والنواب، والقبلية المتحكمة في الريف ...
إذا أضفنا كل هذه العوامل إلى الفقر والجهل والمرض لالتمسنا للفلاح كل العذر ... لكن إذا استطعنا أن ننفذ من خلال السور الحديدي المضروب على الفلاحين وجدنا معادن نفيسة يكتنزها الريف المصري ... معادن لو وجدت القيادة الصالحة وفرص العمل والبذل لما توانت في تقديم أروع التضحيات في سبيل وطنها ... ولعل ثورة سنة 1919 خير شاهد على مدى استعداد الفلاحين للتضحية دون مقابل ...
أما قطاع الموظفين فعلى الرغم من قسوة ظروفهم المعيشية إلا أنهم كانوا يستطيعون الحركة والعمل، ولكن كانت آفتهم الكبيرة عدم التنظيم ... كانوا انفعالات وثورات غاضبة، واستعدادا للتضحية لكن دون قيادة أو توجيه محدد.
وأخيرا أخلص من هذا العرض السريع، إلى حقيقة لم تكن موضع جدال، وهي أن الجامعة كانت ملتقى أمل أبناء الأمة ... فثقة الشعب فيها لا حدود لها، وارتباطه بها له تاريخه القديم، فقد استطاع الطلبة من عهد مصطفى كامل أن ينتزعوا بجدارة مركز القيادة في الشعب ... ثم إن أبناء الشعب من موظفين وفلاحين وعمال تربطهم روابط بأبنائهم الجامعيين، وكما يقولون إن الرجل لا يحب أن يفضله أحد إلا ابنه ...
ولعل موقف طلبة الجامعة سنة 1935 يوم أن أرغموا الأحزاب السياسية الرئيسية وهي الوفد وحزب الأحرار الدستوريين على تكوين جبهة مهمتها إعادة دستور سنة 1923 الذي كان قد ألغاه صدقي سنة 1930 وأن تتخذ موقفا موحدا في وجه بريطانيا .. ثم موقفهم المشهود سنة 1945 واستشهاد بعضهم على كوبري عباس، أعطاهم الحق في زعامة الأمة الحقيقية ...
كان اسم عبد الحكيم الجراحي إذا ذكر في حرم الجامعة خفضت له الأمة رأسها إجلالا وإكبارا ... كان اسم الجامعة يقترن بالثورة والتمرد على الفساد ... إذا قالت الجامعة كلمة ردد صداها الشعب كله، وكانت الحكومة تعمل للجامعة ألف حساب وحساب في كل خطوة تخطوها ... وكان القصر والإنجليز يرهبون جانبها ... إذا خرجت الجامعة في مظاهرة فمعنى هذا إعلان حالة الطوارئ في الجيش الإنجليزي وفي البوليس المصري، وأحكام إقفال قصر عابدين.
أذكر هنا على سبيل المثال موقف الإنجليز والبوليس يوم حادث كوبري عباس سنة 1945 في ذلك اليوم رسمت خطة جهنمية للحيلولة بين طلبة الجامعة وبين الدخول إلى قلب العاصمة حيث يقوم قصر عابدين ... وكان يشرف على هذه الخطة "السير سبل" مدير الأمن والمساعدة "فيتز باتريك" كانت خطة سبل استدراج الطلبة إلى وسط كوبري عباس ثم فتح أبواب الكوبري من الجانبين وبذلك يقع الطلبة في المصيدة ...
وتمت الخطة التي دبرها الإنجليز وحكومة النقراشي ... ولكن تمكن الطلبة من إقفال الكوبري وإنقاذ الآلاف من إخوانهم، ووقع بعد ذلك صدام عنيف بين الطلبة والهجانة ورجال الشرطة .. وكدنا نفتك يومها بفيتز باتريك لولا حماية البوليس له .. على أثر هذه الحادثة سقطت الحكومة ... ولم يكن في مقدورها إلا أن تسقط ... لقد كانت الحكومات تتساقط كأوراق الشجر اليابسة إذا عزمت الجامعة على موقف ...
أسقطت الجامعة حكومات للنحاس وصدقي والنقراشي ... وأسقطت دستور سنة 1930 الذي أعطى سلطات كبيرة للملك .. وأسقطت الجامعة مهابة العرش يوم أن داست صورة الملك في سنة 1946 في حرم الجامعة وهتفت بسقوطه.
هذه هي صورة الجامعة في عين الشعب والإنجليز والحكومات والقصر ... كانت قوة هائلة ذات حركة فعالة في جميع المواقف الوطنية، بل إنها تجاوزت حد الإقليمية إلى المحيط العربي، فكثيرا ما انتصرت لقضية فلسطين وإن كان دورها لم يتجاوز إبداء السخط في بعض المناسبات كذكرى وعد بلفور ...
وإنصافا للإخوان المسلمين فإنهم استطاعوا أن يوجهوا الجامعة إلى الاهتمام بقضايا عربية وإسلامية، فمثلا ناصرت الجامعة سوريا في ثورتها سنة 1945، وانتصرت لتونس في ثوراتها التي امتدت من سنة 1921 إلى سنة 1954، وكان الطلبة يرسلون صرخات التأييد لثورة المليون شهيد في الجزائر ، كما انتصروا للمغرب وليبيا والسودان وهو البلد الذي كان يستحوذ على مشاعر وعواطف المصريين في لهفة إلى تحقيق وحدة وادي النيل ...
ولأول مرة كانت تسمع هتافات في حرم الجامعة تأييدا لإندونيسيا، وباكستان، وبعض الدول الإفريقية التي كانت قد بدأت خطواتها الأولى نحو التحرير .. كان الإخوان في الواقع ينفردون بهذه المواقف، تلبية لمبادئهم التي تدعو إلى وحدة العالم الإسلامي.
إلى هنا نستطيع أن نقول إن الجامعة كان مفروضا عليها أن تتبوأ مركز الصدارة من قيادة الحركة الوطنية، وقد قامت بدورها على أحسن وجه من يوم نشأتها إلى أن توجت رسالتها بتبني القضية عسكريا بعد أن كانت تكتفي بالتعبئة الفكرية والسياسية، وتأخذ بأسلوب الكتابة والخطابة والتظاهر - ... لكن الذي لا أستطيع أن أخفيه ومن واجبي إذ أظهره وأنا أضع حقائق التاريخ بين يدي أبناء الأمة ليأخذوا من ماضيهم لحاضرهم ومستقبلهم، إن الجامعة كانت قد أصيبت بالملل وأخاف أن أقول إنها كادت أن تصاب باليأس، لأن كل الأساليب التي استعملتها لم تستطع أن تطرد العدو من أرض الوطن ... هتاف "الجلاء بالدماء" ، "وذكرى الشهداء"
لم تستطع أن تخلع قدم جندي واحد من الستين ألفا الذين يعسكرون ما بين الإسماعيلية إلى السويس ... ثم إن لعبة إسقاط الحكومات كان الملك قد ألفها، وأحبها كحبه للعب الشطرنج، فإذا أضفنا لهذا أن الجامعة كانت تشهد صراعا فكريا ما بين حركة الإخوان والعناصر الشيوعية التي بدأت تظهر على مسرح السياسة، لدرجة التضارب بالعصي والكرابيج وصراعات أخرى ما بين الأحزاب السياسية تتمثل في الشباب الموالي للحكومة والمعارض لها ...
فمثلا هتاف يسقط إيدن أو بيفن يعني معركة قد تستغرق أسبوعا وتغلق فيها أبواب الجامعة ... فبيفن كان يفاوض النقراشي والهتاف بسقوطه يعني الهتاف بسقوط السعيديين ويعني التالي العودة لحكم الوفد.
نعود لحديثنا عن أثر هذه الصراعات في الجامعة فنقول إن الجامعة وهي من الأمة بمكان القيادة كانت قد أصابتها موجة من اليأس ... اليأس من المظاهرات والهتافات، والخطب والأحزاب .. وكانت في حاجة لعمل جديد وموقف جاد يخرج بها عن هذه الهتافات ..
وهنا ظهرت فكرة تحويل الجامعة إلى معسكر للتدريب العسكري، ومخافة أن يمل القارئ حديث التدريب وأشكاله ومشاكله، فإنني سوف أمر عليه سريعا، وأكتفي منه بالقدر الذي يكشف لأبناء هذا الجيل مدى الجهد الذي بذله إخوانهم وهم يواجهون قوى البغي والعدوان ... وسلاحهم الكبير الذي صنعوا به كل شيء إيمانهم برسالتهم ومثلهم ...
المدفع والقلم مسدس واحد في مواجهة ستين ألف جندي
كانت الفكرة متنفسا كبيرا للإخوان الذين عانوا أعواما طويلة من الدعاية المركزة ضدهم، وكان شباب الإخوان يريد أن يثبت قدرته على الحركة والعمل بعد نكسة فلسطين واهتبل الشباب فرصة إلغاء المعاهدة، وبرزت فكرة استعمال السلاح لتحقيق الجلاء المنشود، بعد أن صار وجود القوات البريطانية في القناة لا يستند إلى قانون ...
صحيح أن الشباب لم يكن يفكر بعقلية المفاوضين والمفاوضات والمعاهدات ولكنه استغله فرصة، وحرص على تحويل العمل السياسي إلى عمل حربي مسلح.
قد يقال وكيف فكرتم في الحرب ... نقول إننا لم نفكر فيها إلا بعقيدة، والعقيدة قادرة على تحقيق المعجزات ... كنا نرفض فكرة القوة المتكافئة والأسلحة المتعادلة والتدريب النموذجي ...
كنا نقول إننا سنقاتل بالقدرات الموجودة معنا ... وسوف ننتصر ... والدين يعطي طاقات كبيرة للمقاتل تعوضه عن جوانب النقص المادية ...
وقررنا البدء بأول مراحل المعركة وهي التدريب ... لكن أين السلاح والذخيرة وأين المال؟! كل هذه الأسئلة كان جوابها في إيماننا برسالتنا، وصدقنا في تنفيذها "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد".
بهذا الإيمان استطعنا أن نحصل على السلاح والمال ونخوض معارك رائعة ضد "بريطانيا العظمى" ! ونحطم سلطان الحكومات، ونرفع سمعة أمتنا إلى عنان السماء، استطعنا أن نحقق هذا كله في فترة ثمانية أشهر بدأت في أكتوبر سنة 1951 وانتهت في يونيه سنة 1952 ....
قد لا أكون مبالغا إذا قلت إن هذه الفترة حققت للأمة مكاسب لا حدود لها ويكفي أن أضع هذه الحقيقة وهي أن الشعب استطاع أن يواجه أكبر تجمع عسكري لبريطانيا في الشرق الأوسط، وفي نفس الوقت كان يتحدى تآمر الحكومات والأحزاب والقصر الذين كانوا يدافعون بضراوة عن مكاسبهم.
استطاع الشعب أن يحمل السلاح، وكانت أول رصاصة وجهها إلى صدر قانون تحريم حمل السلاح، والثانية إلى صدر الإنجليز والثالثة إلى سدنة الاستعمار وأحلافه ... وانتصر الشعب المؤمن في معركته وسجل أروع وأنصع صفحة من صفحات تاريخه ...
قال أحد الأمراء للدكتور عبد الوهاب مورو مدير الجامعة الذي كان يعتبر المدافع الأول، والظل الوارف لطلبة الجامعة في المعركة ... هل تعتقد أن طلبة الجامعة حققوا كسبا من وراء معركتهم في القناة.
قال مورو: هل تتفق معي أنهم حققوا "نصف في المائة" قال قد يكون أكثر من هذا ... قال الدكتور مورو:
أنا أفترض أنهم حققوا نصف في المائة فقط، وعلينا أن نواصل العمل لتحقيق الباقي ... المهم عندي أن نؤمن أنهم حققوا شيئا ما ... وظني أنهم حققوا الكثير ...
نعود فنقول إن التفكير في المعركة بمنطق الجيوش والأسلحة والتدريبات المتكافئة لم يكن موجودا، والسلاح الوحيد الذي كنا نحمله هو الإيمان ... الإيمان بالله والثقة في أنفسنا .. ثم بذل أقصى طاقتنا في العمل ...
وكانت أول خطوة أن نعقد مؤتمرا كبيرا في حرم الجامعة ونعلن فيه افتتاح معسكر للتدريب تمهيدا للحرب ... ولكن خشينا أن يعرض عنا الشباب الذي كان قد يئس من الخطب والمظاهرات والهتافات، فقررنا البدء في العمل من أول يوم بل من أول لحظة ...
واتفقنا على أن أقوم بإلقاء خطاب في حرم الجامعة أعلن فيه افتتاح معسكر حربي، وفي أثناء الخطاب تتقدم كلية الهندسة حاملة معها الخيام وتمضي إلى ساحة واسعة، وتقوم بتثبيتها ونجحت الفكرة، وفرح الطلبة بها وصفقوا لها بشدة ...
وأعلنت في ذلك اليوم أنني خلعت ثيابي الحزبية خارج الجامعة وتجردت للحركة الوطنية، وأعني بهذا أثني لا أمثل حركة الإخوان داخل الجامعة طوال المعركة ..
وأظنني صدقت فيما قلته وإن كنت قد لقيت الكثير من متاعب الإخوان والخصوم على سواء ... فالإخوان كانوا حريصين على فرض أسلوبهم وشعارهم على المعركة لأنهم قاموا بأكبر دور فيها، والخصوم كانوا ينظرون بريبة إلى صدق موقفي ... ولكن الأيام استطاعت أن تؤكد إخلاصنا للنهج الذي أعلناه ...
ولعل هذا الموقف من الشباب يعطينا فكرة واضحة عن طبيعة تلك المرحلة ... فقد كانت غالبية الشباب تميل إلى عدم الانتماء الحزبي ولكنها تقبل الانتماء الوطني وتفضله على كل ألوان الاتجاهات الحزبية حتى وإن كانت سليمة في وجهتها .. ويرجع السبب في هذا إلى النكسات العنيفة التي أصيبت بها الشباب في زعمائهم ...
فالوفد وقد كان رمزا للحركة الوطنية في عهد سعد زغلول تحطم في سنة 1942 بقبوله الحكم تحت ضغط الدبابات الإنجليزية على القصر، أما أبناء الوفد من سعديين ودستوريين فقد كانوا أداة طيعة في يد القصر يضرب بها الحركات الوطنية ... أما مصر الفتاة فقد انطفأت شموعها بعد أن ملأت نفوس الشباب بالأمل في هتلر جديد ... وأما الإخوان فلولا رباط العقيدة وشباب الحركة وعدم تلوثها بالحكم لما استطاعت أن تبقى على ثقة الشباب بها ...
والشيوعيون كان همهم الحركة العمالية وإعداد الخلايا السرية ليوم الزحف الأحمر، ولم يكن لهم ثقل سياسي خاصة بعد أن فضح أمرهم باكتشاف قيادتهم التي كانت منوطة بشاب إسرائيلي من المليونيرات وهو "هنري كورييل" ... خلاصة القول أن الشباب ما كان ليقبل قيادة الإخوان إلا بعد إعلانها التجرد الكامل للحركة الوطنية .. وقد نجحت منهجية الإخوان ورضى الشباب عن قيادتها ...
نعود إلى الخيام التي نصبها الطلبة في إحدى ساحات الجامعة حيث يكون التدريب .. وانطلقت أول رصاصة من مسدس شاب يدعى علي محمد مهنا ... الذي استفتح التدريب ولم يكن هذا الشاب ينتمي لأي حزب ... ثم بدأ نطاق التدريب يتسع يوما بعد يوم ... كان التدريب مقسما إلى عدة مراحل ... تكتيك عنيف، ضرب نار، تفجير قنابل ... ودراسة حرب العصابات ...
ياسر عرفات
آليت على نفسي في مطلع هذا الكتاب أن أسجل الحقائق ملتزما الصدق، آخذا بالحيطة في كثير من الأمور لشدة حساسيتها ...لكني لم أستطع أن أغالب نفسي ومشاعري وأنا أتذكر شابا في الثامنة عشرة، يفيض حماسة وثورة، كان يملأ المعسكر بنشاطه الغامر، كان تلميذا رائعا وأستاذا رائعا كذلك فقد استطاع أن يلم بالتدريبات في أقصر وقت ممكن وانتقل من دور التلميذ إلى دور الأستاذ فكان يشرف على عمليات التكتيك العنيف ...
وعلى الرغم من ضآلة جسمه وصغر سنه فإنه كان قادرا على فرض نفسه على المئات من الشباب .. هذا الشاب هو ياسر عرفات "أبو عمار" زعيم حركة فتح.
كان ياسر طالبا بالسنة الأولى بكلية الهندسة، وعلى الرغم من ظروف الدراسة في الكلية إلا أنه تجرد لمعركة القناة في مصر سنة 1851 ... كان ياسر يمثل في عيني وحدة كفاح الشعب العربي ...
كان الممثل الأمين لأبناء فلسطين في المعركة ... لم يكن ياسر ينتمي لجماعة ولا لحزب .. ولكنه كان من أقرب الناس إلى قلوبنا جميعا، فقد كنا نحس به أنه معنا ... ومعنا في كل خطوة من خطواتنا، إلا أنه كان يدور في فلكه الخاص يملؤه الأمل بالنصر، ولكنه يؤمن بالعمل لتحقيق هذا النصر ...
كان يفر من الجدل واللجاج إلى القفز فوق الحواجز وإطلاق الرصاص وتفجير القنابل ... كان يثب إلى الأمام وثبات عالية وكأنه يحاول أن يطوي الزمن وتحقق بياسر ميلاد أكبر عمل فدائي في المعركة المصيرية، وشاءت الظروف أن ألتقي بياسر، وحاولت جهدي أن أقول له كلمة قصيرة ... لكن لقاءنا لم يتسع ... وكلمتي له ولكل قائد وجندي أن العلم الوحيد الذي سيظل خفاقا هو علم صلاح الدين، أما بقية الأعلام فسوف تحترق وتسقط.
وذكر ياسر يفتح الطريق أمامي لأسجل موقفا لشاب فلسطيني آخر هو حامد التميمي، وحامد كان من زملائي في حرب فلسطين، فلما انتهت الحرب لم يطق الركون إلى الراحة والاكتفاء بأنه صار من المحاربين القدماء كما كان يحلو للبعض ...
ولكنه أصر على مشاركتنا في معركة القناة ... وقد فوجئت به يوما وهو يتقدم إلي على رأس قوة من أبناء فلسطين ويطلب في إلحاح المشاركة في المعركة.
ولعلي لا أكون مبالغا إذا قلت إن المعركة كانت ستأخذ طابعا عربيا شاملا إذا امتد بها الزمن، فقد تزاحم علينا الشباب السوري والأردني يطلبون إعدادهم للحرب، وجاءتني رسالة من زعيم الشباب السوري يلح في المشاركة في المعركة ... كما وصلتني رسائل من باكستان كلها حماسة وتوثب ... وتقدم لنا الكثير من الشباب العربي الذين كانوا يدرسون في الجامعة للمشاركة في معركتنا.
الجامعة معسكر حربي
ونعود إلى ميدان التدريب فنقول إن التدريب بدأ في الجامعة بمسدس واحد ... واستطعنا بعد ذلك الحصول على بعض القنابل شديدة الانفجار والقنابل الحارقة ... ولكن تبين لنا أن هذه الأسلحة غير كافية، وأننا في حاجة إلى أسلحة وذخائر وأموال ... فعقدنا مؤتمرا في الجامعة وأعلنا استعدادنا لقبول جميع الهدايا العينية وهدايا السلاح ...وقصدت بالهدايا العينية الأغطية، وملابس التدريب، كما أعلنا عن عدم قبول أي مبالغ نقدية، وكنت في الواقع مقتنعا لأبعد حد، بأن تجنبنا جمع الأموال سوف يحمينا من التهم التقليدية، والتي تلاحق أي عمل وطني، وهي تلويثه بأنه عمل تكسبي، وكانت مأساة سرقة العشرة آلاف جنيه من التبرعات التي جمعت لأبناء فلسطين تعطينا تحذيرا للمستقبل ...
ونجحت الفكرة ... وبدأت التبرعات العينية تقدم إلينا من مواطنين لا نعرفهم ... وكانت أول هدية تلقيناها بندقية قدمها لنا قاض هو الأستاذ محمود عبد اللطيف ... كما قدم لنا بعض الضباط العاملين بالجيش هدايا من الألغام والمواد الناسفة ... ودوت القنابل في أرجاء الجامعة ... كان منظرا رائعا ... ثكنة عسكرية في حضانة أكبر معهد علمي، وكنت قد قطعت على نفسي، وعاهدت مدير الجامعة أن أحافظ على انتظام الدراسة ...
وأذكر أنني قلت له "لا أحب أن تعلو طلقات الرصاص على صرير الأقلام" ونجحت الفكرة .. وانتظم التدريب وانتظمت الدراسة، كان عدد الذين يتدربون لا يقل عن عشرة آلاف طالب عدا الأساتذة الذين أذكر منهم ... الدكتور عبد المنعم بدر عميد الحقوق، والدكتور أمين الخولي الأستاذ بكلية الآداب، والدكتور حسن فهمي الأستاذ بكلية الهندسة، ومن الذين شاركوا بجهد مشكور الدكتور حسني عباس ... وهنا يقفز إلى القمة رجل وهب نفسه وماله وجهده لقضية وطنه وهو الدكتور سعيد النجار المدرس بكلية الطب.
وإنني أرجو أن يلتمس لي إخواني وأساتذتي العذر إذ أغفلت ذكر بعضهم وعذري أنني أنتزع من ذاكرتي أحداثا مضى عليها ما يقرب من عشرين سنة ... وكل سنة منها كفيلة بأن تجتث الذاكرة كلها، وتفرض النسيان علي فرضا.
ولنعد إلى معسكرنا الحربي الذي نشط فيه التدريب بانتظام ودقة أذهلت الكثير من العسكريين الذين كانوا يكثرون من التردد علينا ... فقد أقمنا تبة ضرب نار وأسند الإشراف عليها لأحد زملائنا ... وأما القنابل فكان يتولى التدريب عليها أحد زملائنا المتخصصين والتكتيك العنيف كان منوطا بالشهيد عمر شاهين وآخرين ... أما الألغام وسلال المولوتوف فقد كان يتولى الإشراف عليها صلاح هدايت (وزير البحث العلمي) يساعده زملاء من طلبة كلية العلوم.
ونعود للسلاح ... والسلاح كان من أكبر العقبات في طريقنا ... فحمل قطعة سلاح في مصر كانت عقوبتها تصل إلى ثمانية أعوام من السجن ... فإذا عثرنا على السلاح وتجاوزنا القانون وقفت في طريقنا عقبة المال، الذي كان شحيحا في أيدينا لأننا أعلنا عن عدم استعدادنا لقبول تبرعات مالية ... وأخيرا اهتدينا لفكرة طرحها علينا الطالب الكردي ...
وأبدى استعداده لتنفيذها ... وتتلخص الفكرة في البحث عن السلاح في الصحراء الغربية ... والمعروف أن الصحراء الغربية كانت مسرحا للمعارك التي خاضت رومل "ثعلب الصحراء" في محاولة لاحتلال مصر ... وكان الإعراب يحتفظون بكميات وفيرة منه ... وللأسف الشديد تسربت كميات كبيرة من هذه الأسلحة قبل سنة 1948 عبر الدلتا وسيناء إلى المستعمرات الإسرائيلية في فلسطين وقتلنا بها في النقب.
كانت في الواقع مغامرة كبيرة لكن كانت إرادة الشباب أكبر منها ... وقد اضطررت للموافقة على فكرة طلبة على الرغم مني لأنني كنت أشفق عليهم من غدر الإعراب ومتاهات الصحراء ...
وقد وقع ما كنت أخاف منه فلقد ضلت القافلة الطريق، وأصيبت سيارتهم في حادثة وتهشمت على جزع شجرة ... وشاء الله أن تعثر عليهم قافلة من الجمال حملتهم إلينا وفيهم بقية من حياة ...
لم تيئسنا هذه الحادثة من مواصلة البحث عن السلاح في كل مكان ... لأننا بدأنا نفكر في إرسال أول قوة إلى الميدان ... وكان دافعنا للإسراع عوامل كثيرة أهمها تعجل الشباب وثورتهم بعد أن استكملوا قدرا من التدريب يكفيهم على حد قولهم لخوض المعركة، وكان الشك قد بدأ يخالط بعضهم في جدية ما نقول ...
أما الأمر الثاني فقد كنت أخاف من انشغال الطلبة بالدراسة عن التدريب بعد أن كان خوفي من انشغالهم بالتدريب عن الدراسة.
إنني أخاف من سرعة جريان القلم لأنه يحاول أن يطارد ذاكرتي حتى لا تهرب الأحداث منها ... وأخاف في نفس الوقت أن يتبدد الموضوع الذي أكتب عنه، ولا أستطيع أن ألم بأطرافه.
وبناء عليه لأعد على عجل إلى موضوع السلاح الذي كنا نجد في البحث عنه للتدريب ... وهنا أذكر بالفضل جهود الإخوان في هذا الأمر، فقد أمدونا بكميات تصلح لمواصلة التدريب، ووعدونا بكميات أخرى قبل بدء المعركة وبدأ النشاط والأمل يدبان فينا وازدادت حماستنا للتدريب ... وأشرق الأمل في صدورنا، وفكرنا جديا في إرسال أول دفعة من الطلبة إلى الميدان ...
والذي لا ينبغي أن نغفله هنا أن كثيرا من الطلبة خاصة الذين لهم سابقة في الحرب كانوا قد سبقونا إلى الميدان بقيادة إخوانية مستقلة هذا عدا الكثير من الشباب الذين اندفعوا تلقائيا للمعركة وانتشروا في الإسماعيلية وبور سعيد والسويس وبدأوا يمارسون مهامهم ..
فقد سبقنا عبد الرحمن يوسف الذي كان يلازم حملة إغلاق القناة التي كان يتولاها صلاح شادي وصلاح هدايت أي أنها كانت ستتم باتفاق بين الإخوان والضباط الأحرار ...
في هذه الأثناء وقعت حادثة نسف قرية كفر عبده ... وقد بدأت الحادثة بنسف وابور المياه الذي يمد معسكرات السويس بالماء ... فثارت ثائرة الإنجليز وغضبوا واتهموا أهل كفر عبده بأنهم يحمون رجال "العصابات والإرهابيين" وتهددوا القرية بالتدمير ...
فثار الشعب السويسي، وتحمس رجال البوليس خاصة بعد أن أصدر إليهم فؤاد سراج الدين وزير الداخلية أوامره بالتصدي للقوات البريطانية على الرغم من أنهم لم يكونوا يملكون إلا بنادق قديمة ومع هذا فقد احتشدوا في وجه القوات المغيرة، يدافعون عن قريتهم بكل ما أوتوا من قوة إلا أنهم لم يتمكنوا من الدفاع وتمكن الإنجليز من تخريبها.
بدء الزحف
لم تكن المعركة تحتمل تأخيرا فقد كانت كل الظروف تلح علينا للتعجيل بالزحف ... وإلا فقدنا عنصر المبادأة .. كما أننا كنا نخشى من تردد الحكومة، أو تدخل الملك وضربها، وكانت سياستنا تتلخص في المحافظة على الحكومة التي ألغت المعاهدة ... بدأنا نستعد للسفر لميدان العمليات الحربية في القناة، ولم يكن معنا إلا القليل من النقود فأخبرت مدير الجامعة بذلك فقدم لنا الرجل مئتي جنيه من جيبه الخاص واستكتمني الخبر فوعدته بذلك.وفي صبيحة اليوم التاسع من نوفمبر سنة 1951 وبعد أن صلينا الفجر في كلية العلوم ... اتخذ ثلاثون شابا مكانهم في عربة كبيرة ... وانطلقت العربة بهم إلى قرية تقع إلى جوار فاقوس مملوكة للأخ المرحوم الحاج إبراهيم نجم رئيس الإخوان في فاقوس ..
حيث اتصل التدريب لمدة أسبوعين .. وكان عبد العزيز ويوسف وآخرون يتولون تدريب الفوج الأول وإعدادهم للمعركة مباشرة.
وبعد استكمال التدريب قمنا بتوزيع قواتنا في عدة مواقع ... أهمها القورين وأبو حماد والتل الكبير ... حيث أعدت لنا منازل ريفية في داخل القرى ... وبدأنا استكشاف المعسكرات استعدادا لضربها ... كان منظر طلبة.
نعود لحديثنا عن أثر هذه الصراعات في الجامعة فنقول إن الجامعة وهي من الأمة بمكان القيادة كانت قد أصابتها موجة من اليأس .. اليأس من المظاهرات والهتافات، والخطب والأحزاب ... وكانت في حاجة لعمل جديد وموقف جاد يخرج بها عن هذه المتاهات ... وهنا ظهرت فكرة تحويل الجامعة إلى معسكر للتدريب العسكري، ومخافة أن يمل القارئ حديث التدريب وأشكاله ومشاكله، فإنني سوف أمر عليه سريعا، وأكتفي منه بالقدر الذي يكشف لأبناء هذا الجيل مدى الجهد الذي بذله إخوانهم وهم يواجهون قوى البغي والعدوان ... وسلاحهم الكبير الذي صنعوا به كل شيء إيمانهم برسالتهم ومثلهم ...
معركة التل الكبير
"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" هددونا بها عند التحقيق ... وكانت القوة التي أنيط بها حراستنا كفيلة بإدخال الرعب في صدورنا فنحن الخمسة كنا نتحرك في موكب مسلح قوامه أربعون عربة مصفحة، معززة بكل الأسلحة.وصلنا إلى معسكرات الإسماعيلية الجبارة حيث كان في استقبالنا زبانية التعذيب الذين أمرونا بخلع كل ملابسنا، ثم زجوا بنا في مكان بارد كالثلاجة، وفتحوا على رؤوسنا "دشا" من الماء المتجمد ...
وكان الجو بطبيعته قارص البرودة فقد أسرنا في شهر يناير، ثم انهالوا على أجسادنا العارية بالكرابيج والعصي ... وأخرجونا بعد ذلك ليلقوا علينا أعجب أمر ... قالوا لنا إن الجنرال أرسكين يأمركم بكتابة رسائل إلى ذويكم تطمئنوهم فيها على أنفسكم، ويخبروهم أنكم تعاملون أحسن معاملة .. وختم القائد أوامره بقوله إن الخطابات سوف تراجع من القيادة ...
وكتبنا الرسائل كما أمرونا .. وأرسلنا كتابا مماثلا لمدير الجامعة ... تكرر العذاب على هذا الوجه، لفترات طويلة، وبعد ثلاثة أيام من العذاب والآلام سمح لنا بكسرة خبز وقطعة سردين وقليل من الماء ...
وبدأت المرحلة الثالثة من التحقيق ... وكان جل همهم معرفة انتمائنا الفكري ... وطبيعة تنظيمنا ... وكنا قد اتفقنا على أن نستمسك بانتمائنا للجامعة ليس إلا ... إلا أنهم لم يصدقونا ... وبدأوا يسألوننا عن حسن الهضيبي وحسن دوح وعمر شاهين ...
فكنا نكرر أننا نعرف اسم الأول ولكن لا نتبعه سياسيا ... أما الثاني والثالث فأكدنا لهم أنهم زملاء لنا في الجامعة .. ثم أجروا علينا تجربة نفسية لدراسة جوهرنا ... فجاءوا بقطعة قماش كبيرة ملفوفة كالعلم، وعرضوها أمامنا ببطء في محاولة لمعرفة انعكاسها على وجوهنا وفي ملامحنا .. كانت اليافطة تحمل اسم "شعبة الإخوان المسلمين بالتل الكبير" ... وقد انتزعت بعد المعركة من الشعبة كغنيمة ... المهم فشلت التجربة الخبيثة وأصررنا على موقفنا ...
وأخيرا جاءت النجدة ... بصورة لم نكن نتوقعها، فقد دخل علينا المحقق وبيده صحيفة "أخبار اليوم" .. وقال لنا وهو يدفع إلينا بالصحيفة.
هل تعرفون إدوارد هذا؟
فقلنا بصوت واحد أنه زميلنا في المعركة ...
وإدوارد هذا شاب مسيحي متحمس كان معنا في معركة التل الكبير، وعلمنا أن سبب ذكر اسمه في الصحيفة كان بمثابة دفاع من حسن دوح أمام الرأي العام عن طبيعة المعركة في القناة وأنها ليست قاصرة على الإخوان بل إنها مفتوحة أمام الجميع ... واستدل باسم إدوارد لتعزيز موقفه ...
بعد أن عرف الإنجليز هذه الحقيقة وهي أننا لا ننتمي للإخوان المسلمين كفوا إيذاءهم عنا، وبدأت المعاملة تتحسن تدريجيا.
الإفراج
استمر الحال كذلك شهرا ونصف الشهر ... وعلى غير توقع منا دخل علينا أحد الضباط وحيانا بأدب وقال لنا لقد أصدر الجنرال أرسكين قائد عام القوات البريطانية في القناة قرارا بالإفراج عنكم ... ثم أوصانا بعدم ذكر أي شيء عما لقيناه داخل المعسكرات ...فرحنا حقا بالإفراج ... وكان فرحنا أشد عندما التقينا بإخواننا في الجامعة ... وتمت عملية تسليمنا للحكومة عن طريق ضابط الاتصال العميد شريف العبد الذي رحب بنا وهنأنا ..
أما الضابط الإنجليزي الذي قام بتسليمنا فسألنا وهو يشد على أيدينا عما إذا كان قد وقع تعذيب علينا أم لا ... فلم نجبه إلا بابتسامة ساخرة .. ثم قال لنا: إنني آمل أن ألتقي بكم في القاهرة لأتناول معكم العشاء واستدار نحوي ووجه إلي سؤالا غريبا قال لي:
ما هي الوظيفة التي تنتظرك بعد التخرج من الجامعة؟ قلت له: إنني سوف ألتحق بالجيش بعد تخرجي من كلية الهندسة.
خرجنا من معسكرات التعذيب، وطفنا بشوارع الإسماعيلية ورأينا آثار التخريب في المحافظة بعد أن دكها العدو بمدفعيته ... ثم مضت بنا السيارة إلى وزارة الداخلية بمصر ... ووجدنا مجموعة من زملائنا في انتظارنا، وكانت فرحة العمر ونحن ندخل حرم الجامعة قلعة العلم والحرية حيث استقبلنا استقبال الفاتحين، آلاف من الأيدي تصفق وآلاف من الحناجر تهتف، ولم تستطع فرحتنا أن تمنع دموع الحزن على عمر شاهين وأحمد المنيسي ...".
موقف مؤسف
لنعد لمعركة التل الكبير ... فقد سبق أن قلت إنني دخلت القرية قبل بدء المعركة، وبعد أن اطمأننت على سير العمل والتنظيم عدت إلى القورين، وهناك فوجئت برسالة عاجلة تدعوني للعودة للتل ... وتتابعت أنباء الإذاعات المحلية والأجنبية عن وقوع معركة بين الفدائيين والعدو بالقرب من التل ...أسرعت بالعودة من حيث أتيت، ولكن تبين لي أن الطريق الرئيسي قد أقفل وأن القرية العتيدة محاصرة من كل جانب ...
كان كل همي إنقاذ كتيبة الجامعة حتى لا تهلك عن آخرها ... ولكن ما الوسيلة؟ قلت لنفسي ولم لا أستعين برجال الحكومة في الشرقية ... وطلبت القائمقام أبو شهبة حكيمدار المديرية وألححت عليه في إمدادنا بقوة من رجال البوليس، فقال إن الجنود لا يملكون أكثر من بنادق ومع كل واحد خمسة عشر طلقة نارية ... وهم غير مستعدين للدخول في معركة كبيرة .. فطلبت منه إعطائي ذخيرة ولكنه اعتذر بأن تنبيهات الحكومة لا تسمح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق