السبت، 31 يناير 2015

السيرة النبوية لراغب السرجانى (المشركون والدولة الاسلامية )

إن الصورة الإجرامية التي يقوم بها أعداء الله على المسلمين لا تزول بتغير الزمان والمكان، فإن أعداء الله عز وجل إذا سمعوا بأمة ترفع راية الإسلام أعلنوا ضدها العداء، وألبوا كل قوى الشر ضدها، وتظهر هذه الصورة جلية في حرب قريش للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة المنورة، فقد شنوا على المسلمين حرباً نفسية واقتصادية وسياسية وعسكرية.
ملخص الخطوات المهمة لبناء الأمة الإسلامية
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الثالث من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.
تكلمنا في الدرسين الماضيين عن قواعد في غاية الأهمية لبناء الأمة الإسلامية، استخلصناها من مضمون العمل في خلال ثلاث عشرة سنة في مكة، واستخلصناها كذلك من الخطوات الأولى التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، هذه الخطوات في مجموعها تمثل حجر الأساس لصرح الأمة الإسلامية العظيم.
وسنقوم بتلخيص هذه الخطوات، بحيث تكون مجموعة في نقاط محددة معروفة، ثم نبدأ بعد ذلك إن شاء الله استكمال خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة.
أهم هذه الخطوات التي ذكرناها: الأولى: الإيمان الكامل بالله عز وجل وبأحقيته الكاملة في التشريع للمسلمين، والإيمان الجازم بأنه سبحانه وتعالى له الخلق والأمر.
الثانية: الإيمان اليقيني بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغ عن رب العزة سبحانه وتعالى، ومن ثم فالتشريعات التي شرعها صلى الله عليه وسلم ليست من نتاج فكره أو اجتهاده، إنما هي وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، وجبت علينا فيها الطاعة، كما وجب علينا الطاعة للقرآن الكريم تماماً بتمام.
وسنخرج من هاتين الخطوتين بشيء مهم جداً، وهو أن القرآن والسنة هما المصدران الرئيسان للتشريع في الأمة الإسلامية، وأن هذا ليس لنا فيه خيار، هو فرض من ربنا علينا سبحانه وتعالى، وبدون هذا المعنى لن تقوم أبداً أمة إسلامية ناجحة.
ولما نقول: القرآن والسنة المصدران الرئيسان للتشريع، فإننا نعني بذلك أن هناك مصادر أخرى للتشريع، مثل الاجتهاد، والقياس، والعرف، والمصالح المرسلة، وأقوال الصحابة وغيرهما، لكن بشرط ألا يتعارض كل هذا مع المصدرين الرئيسين للتشريع: القرآن، والسنة.
وهذا الكلام سيعطينا بعدًا ثانيًا للسيرة، سيجعلنا ندرس المصدر الرئيس الثاني للتشريع، وهو حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيفية بنائه صلى الله عليه وسلم للأمة، وكلامنا عن خطواته ومعاملاته وغزواته ومعاهداته ما هو إلا كلام عن صلب الدين، ومن ثم لابد من التحليل الدقيق والدراسة المتأنية لكل موقف من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا مانع من تفريغ الأوقات، بل والأعمار لهذه الدراسة؛ لأنها سبب نجاتنا في الدنيا والآخرة.
إذًا: هاتان قاعدتان في منتهى الأهمية في بناء الأمة الإسلامية، تربية الشعب على الإيمان الكامل بالله رب العالمين، وتربية الشعب على الإيمان الكامل برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
ومن قواعد بناء الأمة كذلك: التربية المتأنية للأمة على معنى مراقبة رب العالمين لكل أعمالنا، وأن هناك يوماً حتماً سيأتي، سيحاسب الله عز وجل فيه البشر أجمعين: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
ومن قواعد بناء الأمة كذلك: تفعيل دور المسجد في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا.
ومن قواعد بناء الأمة كذلك: الوحدة بين المسلمين، ورأينا ذلك في توحيد الأوس والخزرج، ورأيناه كذلك في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وإزالة الفوارق القبلية بين المسلمين؛ ليصبح رباط العقيدة هو الرباط الرئيس الذي يربط بين المسلمين وليس الرباط الوحيد؛ لأن الإسلام لا ينكر العلاقات الإنسانية الطبيعية بين الإنسان ورحمه، والإنسان وعشيرته، ولكن يحددها في أطر شرعية محددة تفيد في بناء الأمة الإسلامية.
ومن قواعد بناء الأمة كذلك والتي فصلنا فيها أكثر من مرة: فقه ودراسة المتغيرات الموجودة في الواقع، وتحديد طرق التعامل مع كل أزمة بحسب حجمها، وحسب الظروف التي تصاحب كل أزمة، ومن ثم يضع المسلم الحل المناسب في ضوء الأطر الشرعية.
ونحن رأينا تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان مختلفاً مع كل أزمة بحسب طبيعتها، فنجد أنه انتهج نهجاً حكيماً جداً في التعامل مع النوعيات المختلفة من الأفراد والقبائل التي استلزمت المرحلة أن يتعامل معها، فمع الأوس والخزرج قام بالصلح بينهما على أساس العقيدة والدين، ومع المهاجرين قام بخطوات مرتبة منظمة لاستيعابهم في المجتمع المدني، بل وتفعيلهم في بناء الأمة، فتحول المهاجرون من عبء اقتصادي وسياسي واجتماعي على المدينة المنورة إلى قوة فاعلة تضيف إلى خير المدينة وقوتها.
كذلك تعامله مع المسلمين في الحبشة حيث استقدم صلى الله عليه وسلم بعضهم وأبقى بعضهم لحين استقرار الأوضاع.
وتعامله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين في القبائل البعيدة عن المدينة وليسوا من أهل مكة؛ أبقاهم في قبائلهم لينشروا الإسلام فيها، ولكي يوسعوا نطاق الحركة الدعوية في الجزيرة العربية، ومع المستضعفين من
مشركو أهل مكة وكيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم
قريش أكبر قبيلة وأعز قبيلة عربية، لها تاريخ مجيد، وليس من المعتاد في الجزيرة العربية أن تقف قبيلة في مواجهتها، بل كل القبائل تحرص على إقامة علاقات دبلوماسية قوية مع قريش؛ لأن قريشاً ترعى البيت الحرام، وتهتم بأمور الحجاج في مكة، ولها مكانة في قلوب العرب.
فإذا وضعت هذه الخلفية في تحليلك فلا شك أن قريشاً لن تسكت أبداً عن الطعن الخطير الذي وجهه الأوس والخزرج لكبريائها، عندما استضافوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين.
فالمسألة أصبحت مسألة كرامة وعناد وكبرياء عند قريش؛ حاول أكابر قريش وزعماؤها بشتى الطرق أن يقتلوا هذه الدعوة في مهدها، لكنهم لم يستطيعوا، وليس من السهل لهؤلاء الأسياد أن يسلِّموا بالهزيمة.
وقريش لها علاقة قوية بالأوس والخزرج، فقد كان بينهم تعاون وتحالف وتجارة وإجارة، بل كان بينهم مصاهرة وزواج، فأخوال الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كانوا من بني النجار من الخزرج، ولا شك أن هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ستؤثر سلباً على علاقة قريش بالأوس والخزرج، وقد يتلو ذلك آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية، وستكون هناك آثار كبيرة ووخيمة على أهل مكة، فقريش تعرف أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذهب إلى المدينة المنورة حيث يسكن اليهود، ولو أسلم اليهود فإن هذا سيضيف قوة كبيرة جداً إلى قوة المسلمين.
فاليهود لديهم سلاح وحصون وعتاد وأفراد وأموال، وقد توقع القرشيون أن يسلم اليهود؛ وذلك لأنهم أهل كتاب، يتحدثون عن الإله الواحد، ويتحدثون عن الرسل والكتب السماوية، بل إنهم يتحدثون عن ظهور نبي في هذه الفترة من الزمان، فلا يستبعد أبداً إسلامهم كما في تحليل قريش.
وبالإضافة إلى كل هذه العوامل فإن المدينة المنورة تقع على طريق التجارة من مكة المكرمة إلى الشام، وأن وفود المسلمين في هذه المنطقة كقوة ودولة سيهدد مصالح قريش التجارية بقوة، وسيضرب اقتصاد مكة بضربات موجعة، فمن المستحيل أن تترك قريش دولة الإسلام هكذا دون مقاومة.
من أجل ذلك كله كان من المتوقع أن قريشاً لن تنسى قصة الرسول عليه الصلاة والسلام وهجرته للمدينة، مع أنه صار بعيداً عنها حوالي (500) كيلو متر، وهكذا تبقى السنة الإلهية الواضحة في كتاب الله العزيز سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
 المراسلات والمفاوضات مع مشركي المدينة وكيفية تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم معهم
اختارت قريش طريق العلاقات الدبلوماسية والمراسلات والمفاوضات مع أهل المدينة، لكنها كانت مفاوضات تحمل تهديداً خطيراً للمدينة المنورة، لم تكن في صورة عهود ومواثيق؛ بل كانت في صورة تهديد مباشر من القوة الأولى في الجزيرة العربية لقوة الأوس والخزرج.
راسلت قريش زعيم المشركين في المدينة عبد الله بن أبي ابن سلول، واستغلت رغبة عبد الله بن أبي ابن سلول في الملك والسيادة، وكراهيته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغلت طبيعته الخائنة التي لا تقدر على المواجهة، فأرسلت إليه وإلى مشركي المدينة بصفة عامة رسالة، ذكرها أبو داود في سننه، تقول قريش لـ عبد الله وأصحابه في هذه الرسالة: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم باللات والعزى لتقتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح ذراريكم.
تهديد مباشر لمشركي الأوس والخزرج بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم أو بقتله، وجاء التهديد موافقاً لهوى عبد الله بن أبي ابن سلول؛ ولذلك فقد أخذ قراراً في منتهى الخطورة، إذ جمع المشركين من الأوس والخزرج وقرر أن يقاتل المسلمين من الأوس والخزرج، وهكذا تناسى عبد الله بن أبي ابن سلول تماماً عداءه القديم مع الأوس، تناسى الثارات العميقة والدماء التي سالت بين القبيلتين قبل ذلك، لم يعد يذكر إلا الحرب العقائدية الآن، سيقاتل المسلمين من أبناء الخزرج، وسيضع يده في يد المشركين من أبناء الأوس، فقد يظن البعض أن هذا غريب، لكنها حقيقة متكررة وسنة ثابتة، دائماً يجتمع أهل الباطل على اختلاف تصوراتهم وعقائدهم وطرقهم في التفكير لحرب المسلمين.
ستجدون ذلك متكرراً في قصة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الفتوح الإسلامية فتوح فارس والروم والأندلس، وفي الحروب الصليبية وحروب التتار، وفي احتلال أوروبا للعالم الإسلامي في القرن التاسع عشر والعشرين، وستجدونه الآن في أكثر من بقعة من بقاع العالم، وفي أكثر من نقطة من نقاط الصراع بين المسلمين وغيرهم، اتفاق اليهود مع النصارى، واتفاق اليهود مع الهندوس، واتفاق أمريكا مع روسيا، واتفاق إنجلترا مع فرنسا، واتفاق الشيوعيين مع الرأسماليين، ومع الاختلاف البين لهذه المدارس، إلا أنهم يتفقون ويتجمعون إذا كان عدوهم الإسلام، فالحرب عقائدية في المقام الأول، قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89].
فجمع عبد الله بن أبي ابن سلول المشركين من الأوس والخزرج لحرب المؤمنين من الأوس والخزرج، وتجمع كذلك المسلمون لحرب المشركين، بوادر حرب أهلية خطيرة، وفتنة طائفية داخلية ستنشب بين المسلمين وطائفة أخرى على غير دينهم، تعيش معهم في داخل البلد الواحد.
حينها جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وحاول قدر المستطاع أن يوقف الصراع قبل أن يبدأ، وصل إليهم بالفعل قبل القتال، لكنه لا يستطيع هنا أن يذكر بالجنة والنار والعقيدة والمبادئ الإسلامية؛ لأن هناك مشركين، فلا يستطيع أن يقول لهم: قال الله وقال الرسول، فأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام يضرب على وترين في منتهى الأهمية، وهما وتران يمثلان عاملاً مشتركاً بين الفريقين.
الوتر الأول: وتر التحدي وإثارة النخوة والعزة والإباء، وكل هذه معانٍ يفتخر بها العرب كلهم، سواء كانوا مسلمين أو مشركين، قال لهم: (لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت قريش تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم).
وهكذا حرك فيهم عنصر التحدي لقريش، وأخذ يلفت الأنظار إلى مكيدة قريش، ويقول لهم: لستم أنتم الذين تخدعكم قريش بمكيدة مكشوفة كهذه.
الوتر الثاني كان في منتهى الأهمية أيضاً: وتر الرحم والقبيلة.
قال لهم: (تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟) هل سيقتل الأوسي أوسياً؟ هل سيقتل الخزرجي خزرجياً؟ هل سيقتل اليثربي يثربياً من نفس الوطن، ويعيش نفس الظروف ويتعرض لنفس المخاطر؟ وهكذا ذكرهم جميعاً بالمواطنة ليثرب.
فلما سمع القوم هذا الكلام تفرقوا جميعاً مسلمهم ومشركهم، فهذه حكمة نبوية بالغة أنهت الفتنة الطائفية في داخل البلد الواحد تماماً، وأشد الناس فرحاً بهذه الفتنة الطائفية هم أعداء الأمة، فطرف ينهي طرفاً آخر، وطرف يقضي على طرف آخر، وهكذا كسرت شوكة الدولة دون عناء من الأعداء، وهذا الذي كانت تريده قريش، فالقائد الحكيم صلى الله عليه وسلم منع ذلك باقتدار، وعلى كل المخلصين لهذا الدين أن يستوعبوا هذا الدرس تماماً، فما أكثر ما تثار الفتن الطائفية في البلاد الإسلامية، ولا تجر على البلد إلا الويلات والدمار، بل ما أكثر ما تثار الفتن بين المسلمين والمسلمين، جماعة تحارب جماعة، أو سلطة تحارب جماعة، والجميع في مرتبة واحدة، وقد رأينا ذلك في فلسطين والعراق والأردن ومصر وليبيا والجزائر وفي غيرها وغيرها.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نتجنب الصراع الداخلي بكل وسيلة،
استخدام قريش للحرب النفسية على المسلمين
قامت قريش بالحرب النفسية على المسلمين بعد فشلها في إثارة الفتنة في المدينة بين المسلمين والمشركين أرسلت قريش رسالة إلى المسلمين، قالت: لا يغرنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم.
هذا أسلوب قديم وحديث، وما زلت قريش تستخدم التهديد والوعيد.
وهذا وإن كان يحتمل أنه من قبيل الحرب النفسية الوهمية على المسلمين، إلا أن المسلمين أخذوه مأخذ الجد والاعتبار، فالعقل لا يمنع أن تغزو قريش المدينة المنورة، أو أن تخطط لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد حاولوا أن يقتلوه أكثر من مرة، وآخرها كانت المحاولة التي تمت قبل الهجرة بقليل، وأرادوا أن يضربوا عنقه صلى الله عليه وسلم بأربعين سيفاً في وقت واحد حتى يتفرق دمه بين القبائل كما كانوا يقولون، ورصدوا لمن يقتله أو يأسره مائة من الإبل وهو مبلغ ضخم جداً، فلا يستبعد أبداً أن ترصد قريش مائة من الإبل لمن يتسلل إلى داخل المدينة؛ ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يبيت ساهراً حذراً من غدر قريش، وفي يوم من الأيام تعب صلى الله عليه وسلم من كثرة السهر، روى البخاري ومسلم: أن السيدة عائشة قالت: قال صلى الله عليه وسلم: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، قالت: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: من هذا؟ فقال: سعد بن أبي وقاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك؟ قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له صلى الله عليه وسلم بخير ثم نام).
هذا كان حال المسلمين في المدينة المنورة، الموقف فعلاً كان متأزمًا، وهذا الأمر لم يكن عارضاً، بل كان أمراً مستمراً، لم تقف حراسة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن عصمه الله عز وجل من الناس، وذلك لما نزل قول ربنا سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
لما نزلت هذه الآية أخرج صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة وقال: (يا أيها الناس! انصرفوا عني فقد عصمني الله عز وجل) وأوقف صلى الله عليه وسلم الحراسة بذلك، وهذه خاصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد لعموم القيادات الإسلامية أن تحمي نفسها من أعدائها.
كما أن هذا التهديد لم يكن خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم فقط، بل كان لكل المؤمنين في المدينة المنورة، وخاصة القيادات الإسلامية، ونحن لا ننسى أن قريشاً رصدت مائة من الإبل لمن يأتي بـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه حياً أو ميتاً.
يقول أبي بن كعب رضي الله عنه: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه) فاغتيال الزعامات الإسلامية هدف لأعداء الأمة، لكن هذا التهديد لم يجد مع المسلمين.
قطع قريش للعلاقات الدبلوماسية مع المدينة المنورة
لم ينجح تهديد قريش ولا وعيدها، فقامت بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المدينة المنورة، وهددت بمنع أهل المدينة من زيارة البيت الحرام، مع أن البيت الحرام ليس ملكاً لقريش، وأعراف الجزيرة العربية وقوانينها بل وقوانين قريش نفسها تقضي بأن الذي يريد البيت الحرام لا بد أن يعطى الأمان، بل ويكرم ويخدم ويرعى، وكانت قريش تفتخر على غيرها من القبائل بأنها تسقي الحجيج وتعمر المسجد الحرام، ومع كل هذا تنكرت لكل ذلك، وقررت أن تنسى قوانينها أو تتناساها، وتتعربد في الأرض كما يحلو لها.
روى البخاري رحمه الله قصة ذكر فيها: أن سعد بن معاذ رضي الله عنه سيد الأوس انطلق إلى مكة معتمراً، فنزل على أمية بن خلف -كان صاحبه في الجاهلية- فقال لـ أمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت، فخرج به أمية بن خلف وذهب سعد ليطوف، فلما طاف سعد بن معاذ بالبيت الحرام قابله أبو جهل، فقال أبو جهل يخاطب أمية بن خلف ويتجاهل تماماً سعد بن معاذ مع أنه يعرفه: يا أبا صفوان! من هذا معك؟ فقال: هذا سعد.
وكان أبو جهل يعرف سعداً؛ لأن أمية بن خلف يقول: هذا سعد.
دون تعريف كامل، فلم يقل له: هذا سعد بن معاذ سيد الأوس.
فقال أبو جهل مخاطباً سعداً: ألا أراك تطوف بمكة آمناً، وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم؟ أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً.
فهذا تهديد خطير، وكأن أبا جهل قد فقد صوابه وحنكته، وفقد كل حكمته في التعامل مع قبيلة قوية كقبيلة الأوس أو الخزرج، فقال سعد بن معاذ رافعاً صوته كما في رواية البخاري، يرد عليه بقوة: أما والله لئن منعتني هذا -أي: لئن منعتني من الطواف بالبيت الحرام- لأمنعك مما هو أشد عليك منه، طريقك على أهل المدينة.
فهذا موقف جليل من الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه يحتاج منا إلى وقفة، فالتذلل والخضوع والخنوع لزعماء الكفر وقادة الضلال وجبابرة الأرض لا يزيدهم إلا كبراً وغطرسة وظلماً وجوراً، أما الوقوف هذه الوقفة الجادة الحاسمة فلا شك أنه يزلزل كيانهم ويهز أعصابهم، ونحن نلاحظ أن سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه كان واقعياً جداً في تهديده، يعني: لم يهدده بقتل أو بغزو مكة أو بالقدوم إلى مكة للعمرة رغماً عن أنفه، ولكن هدده بما يملك.
هنا سعد بن معاذ لم يفقد مصداقية كلامه، بل كان كلامه في غاية التأثير، فهو رضي الله عنه وأرضاه يعرف مواطن القوة عنده وما بيده ويعرف ما يضعف عدوه ويعرف مصالح مكة، فهذا موقف رجولي يليق بمؤمن.
قد يقول قائل: لماذا رد سعد بن معاذ رضي الله عنه بغلظة هكذا على أبي جهل؟ بينما رد الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بلطف ولين على عبد الله بن أبي ابن سلول المشرك الخزرجي، مع أنه أيضاً أساء له القول قبل ذلك؟

الجواب
لاختلاف الظرف واختلاف المكان واختلاف الشخص المشرك الذي تم الحوار معه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتحاور مع عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم المشركين في يثرب وقبيلته الخزرج، والخزرج لم تقف سداً منيعاً أمام الإسلام كما فعلت قريش، بل على العكس، فإن عدداً كبيراً جداً من الأنصار هم من قبيلة الخزرج، كما أن المشركين من قبيلة الخزرج بما فيهم عبد الله بن أبي بن سلول لم يسمعوا عن الإسلام إلا منذ فترة وجيزة، ولم يختلطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين اختلاطاً كافياً؛ فلذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يؤمل كثيراً في إسلامهم، ويعتقد أنهم بطبيعتهم الرقيقة المشهورة عن أهل المدينة سيميلون إلى الإسلام عاجلاً أو آجلاً؛ لذلك هو لا يريد تصعيد الموقف مع قبيلة الخزرج، بل يريد امتلاك القلوب وإقناع العقول، وهذا كله يتطلب رفقاً في التعامل وليناً في الكلام.
أما موقف سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه مختلف تماماً، فهو موقف مع واحد من أكابر مجرمي قريش، بل مع أعتى عتاتها وأفجر فجارها، موقف مع فرعون هذه الأمة، وبث الرعب في قلبه أمر مطلوب، وإشعاره بالقلق والاضطراب واجب شرعي، وإثارة خوفه على ماله وسلطانه عمل إستراتيجي للمسلمين.
وتاريخ أبي جهل يشير إلى أنه لن يؤمن، خاصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليه قبل ذلك وقال: (اللهم عليك بـ أبي جهل)؛ لذلك فإن سعد بن معاذ لا يؤمل في إسلام أبي جهل لا من قريب ولا من بعيد، فكان قراره حاسماً في ذلك، وهو الوقوف
التضييق الاقتصادي من قريش على المدينة المنورة وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك
رأينا التعامل مع بعض الرموز المشركة في داخل المدينة المنورة، ورأينا الحرب النفسية على المسلمين والتهديد والوعيد، ورأينا قطع العلاقات الدبلوماسية مع المدينة، وذلك لما قطع أبو جهل علاقاته مع سعد بن معاذ وهو سيد الأوس، رأينا تغيير القوانين والتنكر للأعراف ونكث العهود، ومنع المسلمين من الوصول إلى مكة ظلماً وقهراً، هل اكتفت قريش بهذا كله؟ لا، لم تكتف بذلك، بل بدأت في تنفيذ خطوة أخرى، وهي عملية التضييق الاقتصادي على المدينة المنورة، وذلك بالتأثير على القبائل التي حول المدينة والمنورة، وبالاتصال أيضاً باليهود الذين يعيشون في داخل المدينة المنورة؛ لمنعهم من التعامل مع المسلمين.
استغلت قريش ما لها من نفوذ وعلاقات بالقبائل المختلفة؛ لتحاصر المسلمين وتضيق عليهم، لكن هذه الوسيلة مع خطورتها لم يكن لها التأثير الكافي على الدولة الإسلامية؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام من أول يوم نزل فيه المدينة المنورة قد عمل في حسابه أنه سيقابل مثل هذه المعضلة، وهي معضلة الحصار الاقتصادي من قريش للمدينة المنورة؛ لذلك خطط النبي صلى الله عليه وسلم تخطيطاً في غاية الإبهار للخروج من الأزمة الاقتصادية، أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم من اللحظة الأولى التي بدأ يخطط فيها لبناء الأمة الإسلامية أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تبنى إلا على أكتاف أبنائها، والاقتصاد المسلم إذا كان معتمداً على الآخرين فإنه سيصبح اقتصاداً هشاً ضعيفاً لا قيمة له، فما بالكم لو كان يعتمد على عدو أو يعتمد على يهود؟ والموقف عند هجرة المسلمين للمدينة المنورة كان صعباً جداً، والمدينة لم تكن فقيرة فقط، بل إن اقتصادها إلى درجة كبيرة جداً كان في يد اليهود، فسوق المدينة الرئيس هو سوق بني قينقاع، ولعله السوق الوحيد في المدينة، والتجارة في معظمها تتم في داخل هذا السوق، حتى إن كبار التجار من الأنصار كانوا لا يتعاملون إلا في داخل هذا السوق، والأخطر من التجارة والسوق والمال هو الماء، والماء كان أيضاً في يد اليهود، وكان أهل المدينة يشترون الماء من الأبيار التي يمتلكها اليهود، وأشهر هذه الأبيار بئر رومة المشهور.
فماذا لو حدث اتفاق بين قريش واليهود؟ وماذا لو منع اليهود تجارتهم عن المسلمين ومنعوا ماءهم عن المسلمين؟ لا شك أن هذا موقف لا يحسد عليه أحد؛ لذلك خطط الرسول عليه الصلاة والسلام من أول يوم للخروج من هذه الأزمة بمنتهى المهارة والدقة، سطر لنا أصولاً أصبحت من الثوابت في التشريع الإسلامي.
والتفصيل لهذه الوسائل يحتاج إلى وقت طويل إن شاء الله في محاضرتين خاصتين: الأولى: الرسول صلى الله عليه وسلم والخروج من الأزمة الاقتصادية، والثانية: الرسول صلى الله عليه وسلم وعلاج مشكلة الفقر.
لكن الآن سنوجز بعض العناوين المهمة في الخروج من الأزمة الاقتصادية.
أولاً: حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على توفير الماء المملوك للدولة الإسلامية، فالماء سلعة إستراتيجية، ولن تقوم دولة بلا ماء؛ لذلك روى أحمد والنسائي عن الأحنف بن قيس رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يبتاع بئر رومة ويغفر الله له)، كان بئر رومة ملكاً ليهود، فابتاعها عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله! ابتعتها بكذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك، فقال: اللهم نعم).
إن عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه اقتصادي إسلامي كبير، وجه جهده كله لشراء ما ينفع الأمة ويفيدها بدلاً من التجارة في شيء من الرفاهيات أو الكماليات، وهذا كان بتوجيه من الرسول عليه الصلاة والسلام، يوجهه لشراء السلع الإستراتيجية، ومن هذه السلع الإستراتيجية الماء، وقد تكون هذه السلعة شيئاً آخر، قد تكون بترولاً أو قمحاً أو قطناً أو طاقةً نووية حسب الظروف.
هناك أمر في غاية الأهمية وهو أهمية التربية الإيمانية في بناء الأمة الإسلامية، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئاً دنيوياً يعوض به عثمان بن عفان عن الماء الذي اشتراه، ولا يتوقع أن يشتري المسلمون منه ذلك الماء لأنهم فقراء؛ لذلك فإنه حفزه بما في الآخرة، قال له: (من يبتاع بئر رومة ويغفر الله له)، وفي رواية: (وله الجنة) ولو لم يكن إيمان عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه يقينياً في الله عز وجل وفي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وفي الجنة والنار لما هان عليه أن يدفع آلاف الدراهم دون عائد دنيوي، ولم يكن لهذه المشكلة أبداً أن تحل دون تطوع من اقتصادي مسلم غني يرغب في ثواب الآخرة؛ لأن بيت مال المسلمين لم يكن فيه مال.
لذلك كخطوة أولى قبل بناء الدولة لا بد من الاطمئنان على إيمان وعقيدة الجنود، الذين ستبنى على أكتافهم هذه الدولة، وبهذه الخطوة الجب
استخدام قريش الغارات على المدينة المنورة
كل هذه المحاولات الفاشلة من قريش لاستئصال خضراء المسلمين لم تمنع قريشاً من استمرار المحاولة والكيد والتدبير.
لما لاقت قريش هذه الصلابة في المقاومة؛ وهذه العبقرية في الأداء الإسلامي، وهذه الاحتراسية الدقيقة في بناء الأمم، لم تجد أمامها إلا أن تستخدم سلاح البطش والقوة التي اعتادت عليه قبل ذلك، والذي اعتاد عليه عموم الجبابرة والمجرمين والمتكبرين في الأرض، قررت القيام بغارة ليلية مباغتة على المدينة المنورة، ضربةً خاطفةً لعلهم يقتلون رجلاً أو ينهبون مالاً، أو يروعون امرأة أو طفلاً أو شيخاً.
هذه الغارة كانت بعد حوالي سنة تقريباً من هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانت بقيادة أحد المشركين، كان اسمه كرز بن جابر الفهري، والذي أسلم بعد ذلك رضي الله عنه وأرضاه وصار من الصحابة، أغار على المدينة ليلاً، وسرق بعضاً من ماشيتها إبل وغنم وبقر، وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام في إثره حتى يرجع الماشية، لكن أفلت كرز بما نهب، وهنا تبين لنا محاولات قريش.
كانت هذه هي محاولات قريش للصد عن سبيل الله، وكانت هذه محاولات قبيلة كبرى لاستئصال جذور حركة إسلامية ما زالت ناشئة في طور البناء، ولأن قريشاً القبيلة الكبرى تعلم أن هذه الحركة الإسلامية البسيطة تمتلك مقومات بناء دولة عظمى، فإنها سارعت لهدم البناء في أول مراحله، حتى لا تغامر بترك هذا البناء ينمو ثم يبتلعها بعد ذلك.
فعلت ذلك قريش، وكذلك تفعل الدول الكبرى الآن، وما زال المسلمون يتعجبون: لماذا دولة عملاقة ضخمة تهتم بأمر مجموعة من المسلمين البسطاء الفقراء الذين يعيشون على بقعة قد لا ترى على خريطة العالم؟ والسر أنهم يقرءون التاريخ، أعداؤنا يقرءون التاريخ ونحن نغفل عن قراءته كثيراً، قرأ أعداؤنا كثيراً في التاريخ منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، وعلموا أن المجموعة القليلة من المسلمين إذا عاشت بشرع الله عز وجل، وطبقت قوانين الإسلام في كل صغيرة وكبيرة من حياتها، فإنها ما تلبث أن تنمو وتقوى، ثم تمكن في الأرض، ويصبح تمكينها في الأرض خارجاً عن حدود الاستئصال، بل وتصبح قوتها غير قابلة للهزيمة ما دامت مستمسكة بقانونها دون تحريف أو تبديل أو تكاسل أو إهمال.
وهذا الأمر تكرر في التاريخ، ولا زال يتكرر إلى الآن.
أذكر لكم مشكلة تؤرقني كثيراً، هذه المشكلة مشكلة السودان، فالسودان أعلنت أنها ستطبق شرع الله عز وجل على بعض الولايات السودانية، ليس تطبيقاً كاملاً في كل السودان، ومع أن هذا التطبيق تطبيق جزئي وليس كلياً، إلا أن الدنيا قامت ولم تقعد، لقد ظهرت كلمة الإسلام في السودان، وهذا في عرف الكافرين أمر خطير، وتحركت قوى عظمى ودول كبرى لمنع هذا البلد من تطبيق شرع ربه سبحانه وتعالى.
يتعجب المراقبون لماذا دولة عملاقة مثل: أمريكا، أو دول متقدمة مثل: دول أوروبا الغربية أو الإسكندنافية أو دولة قوية كإسرائيل تهتم بشأن هذا البلد الفقير البسيط الذي يصارع بضراوة من أجل الحياة؟! فالمجاعات في السودان تقتل الآلاف المؤلفة، فلماذا هذا الزخم الإعلامي الكبير، وهذا التفخيم والتضخيم لأمر قضية السودان؟ ظهرت كلمة الإسلام في السودان، ولو قدر لهذا البلد أن ينمو فقد يغير من خريطة العالم، لا يغير فقط الإمكانات الاقتصادية المتوقعة ولا البترول ولا المزارع، لكن يرفع من شأن البشر الذين يحملون الإسلام في قلوبهم؛ لذلك فإن عموم أعداء الأمة أدركوا هذا الأمر جيداً وللأسف لم يدركه الكثير من المسلمين.
أولاً: ماذا فعلوا مع السودان الفقير؟ فعلوا نفس السيناريو الذي فعلته قريش القبيلة العظمى مع دولة المدينة المنورة الناشئة، فقد قاموا بمراسلات لبعض الانفصاليين خاصة من أصحاب الديانات الأخرى؛ للقضاء على الحركة الإسلامية في مهدها، ويا حبذا لو أثيرت فتن طائفية في أرجاء البلاد، وهذا كفعل قريش في مراسلتها مع عبد الله بن أبي ابن سلول، وكلكم ترون هذا الأمر على الشاشات الفضائية.
ثانياً: قاموا بالحرب النفسية على المسلمين في السودان، عن طريق التهديد والوعيد المستمر في وسائل الإعلام وعبر السفارات والأعوان والوسطاء.
ثالثاً: قطع الدول الكبرى لعلاقاتها الدبلوماسية مع السودان، وبذلك انفصلت السودان عن الواقع الذي تعيش فيه، وهذا شيء خطير.
رابعاً: تغيير القوانين والتنكر للأعراف الدولية، وتكوين الأحلاف التي ينكرها القانون الدولي، هذه الأحلاف تقوم بالتأثير على الدول الضعيفة؛ لأجل أخذ قرار يضر بمصلحة دولة أخرى، وهذا يكون عن طريق مال أو عن طريق ضغط عسكري أو عن طريق ضغط سياسي، وأمريكا فعلت ذلك فعلاً ضد السودان، فقد ضغطت على دول كثيرة جداً حتى تمنع السودان من الحصول على مقعد إفريقيا في مجلس الأمن، وأعطوا هذا المقعد لدولة أخرى، مع أن التصويت على المستوى الإفريقي كان لصالح السودان.
خامساً: الحصار الاقتصادي والضغط على الشعب إلى الموت، وما أحداث دارفور منا ببعيد.
سادساً: الغارات المفاجئة الغادرة لا على جيش ولا ع
اليهود والدولة الإسلامية
لليهود طبيعة ممقوتة ذكرها الله سبحانه في كتابه، فقد وصفهم الله سبحانه بالغدر والخيانة ونكث العهود، ومع ذلك حاول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه التعامل معهم بالحسنى والصبر والحكمة، فقد كانت قوة المسلمين لا تسمح لهم بالمواجهة معهم، فظل المؤمنون يترقبون مرحلة جديدة يعلون فيها دين الله عز وجل وينصرون نبيه صلى الله عليه وسلم، ويزيلون فيها قوة اليهود ويدكون معاقلهم.
كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود داخل المدينة وخارجها
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.
هذا هو الدرس الرابع من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.
في الدروس السابقة تحدثنا عن الظروف التي بدأ فيها صلى الله عليه وسلم إنشاء دولته، وتحدثنا عن علاقته مع الطوائف المختلفة التي عاصرت هذا القيام، سواء كانوا مسلمين من أوس وخزرج ومهاجرين وغيرهم، أو كانوا مشركين.
وفي الدرس السابق تحدثنا عن مشركي قريش كفار مكة، وكيف كادوا لأمة الإسلام، وكيف خرج صلى الله عليه وسلم من الأزمة بنجاح، وبتدبير متقن معروف وبخطوات ثابتة، وترك لنا تشريعاً يستطيع المسلمون أن يخرجوا به من كل أزمة مشابهة.
اليوم حديثنا مع أمر في غاية الأهمية والخطورة، وهو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود الذين كانوا في داخل المدينة، تعلمون أنه في داخل المدينة تعيش ثلاث قبائل كبرى لليهود: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وفي شمال المدينة المنورة ووادي القرى تعيش مجموعة ضخمة أخرى من اليهود متجمعة أساساً في منطقة خيبر، كيف تعامل صلى الله عليه وسلم مع هذه الطوائف والقبائل المختلفة من اليهود؟
طبيعة اليهود وكيفية تعاملهم مع المسلمين
حتى نعرف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود لابد أن نأخذ خلفية عن طبيعة اليهود، وخلفية عن إستراتيجية اليهود في التعامل مع المسلمين، ملخص تعامل اليهود مع المسلمين مذكور في قول الله عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، رأينا في الدرس الماضي المكائد والمؤامرات من قريش الكافرة في حربها ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن حرب اليهود أشد، وعداوة اليهود أشد، ومكر اليهود أشد؛ ولذلك بدأ بهم رب العالمين سبحانه وتعالى في قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة:82].
لنر طريقة تعامل المنهج الإسلامي مع اليهود، وطريقة تناول التشريع الإسلامي لقضية اليهود.
قبل أن يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة كان هناك إعداد نفسي ومعنوي للصحابة؛ من أجل أن يعرفوا إلى أين سيذهبون بعد ذلك، مع أنه مدة فترة مكة لم يعلم المسلمون أنهم سيرحلون ويهاجرون إلى المدينة المنورة، حيث تجمعات اليهود الكبيرة، لكن هذا إعجاز ظاهر في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، فكثير من الآيات القرآنية ذكرت اليهود في فترة مكة، والآيات المكية التي تحدثت عن اليهود وعن بني إسرائيل أكثر من أن تحصى، إن هذا المنهج جميل نريد أن نقف عنده وقفة، فنقول: إن ربنا سبحانه وتعالى كان يوسع الأفق عند المسلمين، فقبل أن تعرف أنك ستلتقي مع اليهود، وقبل أن تعرف أنه سيكون لك دولة في مكان ما، فإن الله سبحانه وتعالى يوسع لك الأفق، ويعرفك بما هو موجود في الأرض الآن، تجد آيات يستغربها المحلل لها، إلا أن يفقه المنهج الإسلامي الرفيع الذي أوحى به رب العالمين سبحانه وتعالى إلى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.
تجد مثلاً آيات في القرآن المكي عن الروم، وآيات في القرآن المكي عن اليهود، تجد الرسول عليه الصلاة والسلام يخبر الصحابة عن ملوك العجم، يخبرهم عن قيصر وكسرى والمقوقس، يعرف زعماء العالم في زمانه، مع أن المسلمين في فترة مكة كانوا مضطهدين ومشردين وليست لهم دولة ولا شوكة، وكانوا مأمورين رضي الله عنهم أجمعين في فترة مكة المكرمة بالكف عن المشركين، يعني: احتمالية قيام دولة كانت بعيدةً جداً في الحسابات المادية، ومع ذلك فإن رب العالمين سبحانه وتعالى كان يعلمهم كيف يدور العالم حولهم، وهذا منهج حياة لابد أن نأخذ به، لا نقول: إننا دولة إسلامية بسيطة أو مجموعة من الملتزمين البسطاء القلة، لا داعي إلى معرفة أحوال العالم، وحقيقة أنك تحزن جداً عندما تجد شباباً كثيرين لا يعرفون عن أحوال الدنيا شيئاً، لا يعرفون ما الذي يحصل في فلسطين، وما الذي يحصل في الشيشان، وما الذي يحصل في كشمير، والعراق، والسودان، وما الذي يحصل بين الهند وباكستان، وما الذي يحصل بين أمريكا وروسيا، وما الذي يحصل بين أمريكا والصين، فالعلاقات الدولية الكثيرة المعقدة المتشابكة التي حول المسلمين لابد أن يفقهها المسلمون؛ لأنه سيأتي يوم من الأيام يستفيدون من هذه الأمور، فتظهر قوى وتندثر أخرى، وقد يؤثر ذلك سلباً أو إيجاباً على المسلمين.
تحدث القرآن المكي كثيراً عن بني إسرائيل، قبل أن يعرف المسلمون أنهم سيذهبون إلى المدينة المنورة، وقد ترك القرآن المكي انطباعات إيجابية كثيرة عن اليهود، وهذا الغرض معروف، وسنتكلم عنه بعد قليل.
كان يتحدث القرآن المكي عن بني إسرائيل دائماً بلفظ بني إسرائيل، لم يذكر كلمة اليهود أبداً؛ لأن كلمة اليهود استحدثت بعد ذلك في بني إسرائيل، جاءت هذه الكلمة بعد أن خالفوا كثيراً، لكن في الفترة التي كانت قبل المخالفة، وكانوا فيها أتباعاً لموسى عليه السلام ومن بعده من الأنبياء، كان يطلق عليهم في القرآن الكريم: بنو إسرائيل.
وإسرائيل هو نبي الله يعقوب عليه السلام، فنسبة هؤلاء إلى نبي تعطي لهم تشريفاً وتكريماً وتعظيماً، فترفع قيمة بني إسرائيل في قلوب المسلمين.
أيضاً تكررت كلمة (أهل الكتاب) ثلاثين مرة في القرآن كاملاً، منها آية واحدة فقط في القرآن المكي، وجاءت في قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، فلفظة: (أهل الكتاب) تضم اليهود والنصارى، وجاء فيها الأمر بالمخاطبة بالتي هي أحسن.
وتحدث رب العالمين سبحانه وتعالى في كثير من الآيات عن موسى عليه السلام، وتكرر ذكر موسى عليه السلام في القرآن (136) مرة، منها (122) مرة في القرآن المكي، تركيز وتكثيف كبير جداً على قصة موسى عليه السلام، ومعظم قصة موسى مع فرعون، وليس عن مخالفات بني إسرائيل الكثيرة، وإن كان هذا موجوداً.
إجمالاً: ذكر رب العالمين سبحانه وتعالى أنه أعطى بني إسرائيل كثيراً وكثيراً، حتى قال سبحانه وتعالى في القرآن المكي: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32]، وهناك آيات كثيرة تشبه هذا المعنى
ذكر ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود لتأليف قلوبهم
عندما دخل الرسول عليه الصلاة والسلام المدينة حاول أن يرقق قلوب اليهود، وأراد إشعارهم بأنهم فريق واحد من المؤمنين، فعمل شيئين بوحي من رب العالمين سبحانه وتعالى.
الأمر الأول: هو اتجاه القبلة ناحية بيت المقدس، ثبت في البخاري ومسلم أن الرسول عليه السلام توجه إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً من بداية دخوله المدينة حتى قبيل بدر بقليل كما سنرى إن شاء الله في الأحداث.
وهذه القبلة الواحدة تعطيهم انطباعاً واضحاً أنهم فريق واحد يتجهون إلى قبلة واحدة، فنحن وهم نعبد إلهاً واحداً، ونؤمن بالأنبياء السابقين جميعاً.
بقيت جزئية واحدة فقط، وهي أن اليهود يؤمنون برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو مذكور عندهم في الكتب المقدسة لاسيما التوراة والإنجيل، وعندهم علامات وبشارات كثيرة تؤكد أنه هو النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: صيام يوم عاشوراً.
لما دخل الرسول عليه الصلاة والسلام المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه صلى الله عليه وسلم، وأمر المسلمين بصيامه).
فالمسلمون واليهود يصومون يوماً واحداً في السنة، وهذا اليوم فيه تعظيم لموسى عليه السلام، بل وتقليد له، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي الخاتم وأتباعه المؤمنون يقلدون موسى عليه السلام في صيامه لهذا اليوم الذي نجاه الله عز وجل فيه، فكل هذا تقريب للقلوب، ومحاولة لاكتساب قلوب اليهود، فنحن لسنا أعداء لليهود، فكلنا نعبد إلهاً واحداً.
قصة إسلام عبد الله بن سلام وموقف يهود بني قينقاع من إسلامه
بدأ صلى الله عليه وسلم في دعوته لليهود، وجمع اليهود مرة ومرتين وثلاثاً، كان يجمع القبائل بعضها مع بعض أحياناً، وأحياناً يخاطب الأفراد صلى الله عليه وسلم.
وجاء إليه أناس من بني قينقاع ومن بني النضير ومن بني قريظة، وأول من جاء إليه عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، كان اسمه الحصين بن سلام رضي الله عنه قبل أن يسلم، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله وهو من بني قينقاع، لما سمع بقدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة أراد أن يختبره ليعرف أهو الرسول المذكور في التوراة أو غيره؟ فذهب إليه وقال له: (إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟ ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أول أشراط الساعة: فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد، فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقت كان الشبه لها، قال: أشهد أنك رسول الله، ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك) يعني: يكذبونني، يقولون: أنت تقول كلاماً ليس موجوداً في التوراة، (فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت -يعني: اختبأ داخل البيت- فقال صلى الله عليه وسلم: أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم ذلك مراراً، فقالوا مثل ذلك.
قال: فخرج عبد الله إليهم، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقال اليهود: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه).
وفي رواية: (أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه قال لهم: يا معشر اليهود! اتقوا الله، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله جاء بحق، قالوا: كذبت، فأخرجهم صلى الله عليه وسلم).
وهنا وضحت الرؤية تماماً أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فاليهود كلهم يعرفون تمام المعرفة أنه رسول، ومع ذلك ينكرون.
أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه وأرضاه، وأسلم بعد ذلك مجموعة قليلة جداً من اليهود، أما عموم اليهود فقد ظلوا على كفرهم.
هذا كان موقف بني قينقاع.
موقف بني النضير وبني قريظة من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم
كان من بني النضير حيي بن أخطب وهو مشهور، وأخوه أبو ياسر بن أخطب، وبنو النضير قبيلة قوية جداً، فيها الكثير من أشراف اليهود، منهم: سلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم، وكعب بن الأشرف.
تحكي أم المؤمنين السيدة صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها وأرضاها قصة قدوم حيي بن أخطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقول: إن حيي بن أخطب وعمها أبا ياسر بن أخطب ذهبا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في الصباح.
تقول: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالين -كسلانين- يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ أي: يا ترى أهو الرسول الذي جاء في التوراة؟ قال: نعم.
والله هو، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم.
قال: فما في نفسك منه، قال: عداوته -والله- ما بقيت.
سبحان الله! وفوق ذلك يحلف ويقول: عداوته -والله- ما بقيت.
بذلك وضح حيي بن أخطب منهج اليهود في التعامل مع الدين الإسلامي الجديد، وهو المنهج الذي ظل سارياً عند اليهود إلى يومنا هذا إلا من رحم الله تعالى.
وهكذا فإن بني النضير بكاملهم لم يسلم منهم واحد.
كذلك بنو قريظة لم يسلم منهم أحد، وهذا موقف عجيب جداً يحتاج إلى وقفة وتحليل ودراسة لطبيعة هؤلاء البشر الذين يتعاملون مع رسول يعلمون أنه رسول بهذه الصورة، لكنك عندما تراجع قصتهم مع سيدنا موسى عليه السلام، فإنك تستطيع أن تفهم لماذا عملوا هكذا مع رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
المعاهدة النبوية مع اليهود وأسبابها
رفض اليهود جميعاً الإسلام تقريباً؛ لذلك قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم بمعاهدة بين المسلمين واليهود.
ومن المهم جداً أن ندرس ظروف هذه المعاهدة وبنودها؛ لكي نستطيع أن نقارن بين واقعنا الذي نعيشه الآن، وبين ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عقد الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المعاهدة وحافظ عليها، وفي نفس الوقت هو الذي أجلى بني قينقاع، ثم بني النضير، وهو الذي قتل بعد ذلك رجال بني قريظة، ولنا فيه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في كل خطوات حياته.
فلابد أن نعرف متى عاهد؟ ومتى حارب؟ ومتى قبل من اليهود بعض البنود في المعاهدة؟ ومتى لم يقبل منهم أن يمكثوا في المدينة المنورة يوماً واحداً؟ هذه أمور تحتاج منا إلى بحث دقيق.
قد يكون في قرارة نفس واحد منا غيظ وحقد كبيرين على اليهود؛ لأنهم علموا أنه الرسول الحق، ومع ذلك لم يتبعوه، والدين الإسلامي والشرع الإسلامي لا يظلم الناس شيئاً، فليس معنى قيام دولة إسلامية أن تهضم حقوق أهل الكتاب، والعلاقة بين المسلمين وبين أهل الكتاب واضحة جداً في كتاب ربنا سبحانه وتعالى، لخصها الله عز وجل في سورة الممتحنة، قال سبحانه وتعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8 - 9].
فالإسلام قفزة حضارية هائلة، فالعالم اليوم بالكاد يتحدث عن قبول الآخر وعن الاعتراف به وسماعه، لكن الإسلام يتجاوز هذه المسألة إلى ما هو أعظم منها، العالم الآن قد أصبح في طفولة حضارية، والإسلام منذ (1400) سنة نزل بما هو أعظم وأعلى وأسمى من ذلك، نزل بالإحسان إلى الأخ والبر به والعدل معه والرحمة به وهكذا.
فليس معناه أن الرسول عليه الصلاة والسلام يكره أهل الكتاب على الدخول في الإسلام، مع أنه كان يتفطر حزناً صلى الله عليه وسلم على يهودي أو نصراني يموت على غير الإسلام، ومع ذلك لا يستطيع أن يكرهه؛ لأن هذا ليس من شرعنا، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256].
فالرسول صلى الله عليه وسلم قرر أن يعقد معاهدة مع اليهود، واعلم أن فرصة الدعوة ما زالت موجودة، فلم يكن هناك تاريخ عدائي يذكر بين المسلمين واليهود وقتئذ، نعم، هم كذّبوا الآن، ولكن قد يفتح الله عز وجل قلوبهم إن شاء الله في المستقبل، والرسول عليه الصلاة والسلام ما كان ييئس مطلقاً من دعوة إنسان، فقرر أن يعمل معهم معاهدة.

بنود المعاهدة النبوية مع اليهود
إن بنود المعاهدة مع اليهود تستخلص منها قواعد المعاهدات في الإسلام، وأصوله، وهذه المعاهدة بهذا الوصف توضح مدى التجني على السيرة النبوية، الذي قام به من شبّه المعاهدات الحديثة في زماننا مع اليهود بالمعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود في زمانه، وشتان بين المعاهدتين.
تعالوا بنا لنرى بنود معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم: أولاً: أن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وهذا البند يوضح لنا حقيقة كبرى، قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] فللمسلمين دين ولليهود دين، وفي هذه المعاهدة تعريف كل اليهود الموجودين في داخل المدينة المنورة بأسماء قبائلهم، يعني: يهود بني النجار، يهود بني حارثة، يهود بني ساعدة، يهود بني عوف وهكذا.
ثانياً: أن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم.
أي: الذمة المالية لهم محفوظة تماماً من قبل زعيم الدولة في ذلك الوقت صلى الله عليه وسلم، فليس معنى أننا عاهدناهم، وأن الزعامة في الدولة والرئاسة في الدولة للمسلمين أن يؤخذ حقهم، أو أن تؤخذ ممتلكات لهم، بل لهم حرية التملك ما داموا في عهدهم مع المسلمين في داخل الدولة الإسلامية.
وفي نفس الوقت فيها نوع من تميز المسلمين عنهم، فلا تعني هذه المعاهدة أن الأمور ستتميع، ويصبح الاقتصاد الإسلامي ممزوجاً بالاقتصاد اليهودي، لا، ليس للمسلمين دخل بحياتهم، بل لهم حياتهم المستقلة التي يعتزون بها.
ويدخل الرسول صلى الله عليه وسلم في المعاهدة هذا البند؛ لأن الاقتصاد في تلك اللحظة كان معظمه في أيدي اليهود.
ثالثاً: أنه في وقت الحرب يتغير هذا الأمر، فإذا حدث حرب أو حصار على المدينة المنورة، فالجميع بحق المواطنة يدافع عن المدينة المنورة، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.
أي: ما دام المسلمون واليهود يعيشون في بلدة واحدة، لزم الجميع الدفاع عن البلد إذا حصل غزو خارجي.
رابعاً: أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين أي: إذا حصل حرب تجتمع النفقة من الطرفين للدفاع عن البلد.
وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأن النصر للمظلوم، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
كلها أمور تحفظ لليهود شأنهم في داخل الدولة التي يتزعمها محمد صلى الله عليه وسلم.
خامساً: هناك بند خطير جداً وفي منتهى القوة: يقول صلى الله عليه وسلم: (وأنه لا تجار قريش ولا من ناصرها) وهذا بند خطير.
فهذه المعاهدة مكتوبة، وقع عليها الرسول عليه الصلاة والسلام ووقع عليها اليهود، وهو أنه إذا دهم يثرب أي عدو فعلى الجميع أن يتعاون في صده، حتى ولو كان هذا العدو قريشاً، ولم يكن بين قريش واليهود خلافات قبل ذلك، بل كانت العلاقات الدبلوماسية بينهم جيدة.
فاليهود بهذه المعاهدة قرروا أن يقاطعوا قريشاً؛ لأنهم يتوقعون أن قريشاً تهجم على المدينة المنورة، لكن لمعرفة الرسول عليه الصلاة والسلام أن اليهود أهل خداع ومكر وغدر وخيانة، صرح في المعاهدة باسم قريش؛ لئلا تقول اليهود في يوم من الأيام: إن قريشاً مستثناة من هذه المعاهدة، واعلم أن أي معاهدة مع اليهود لابد أن تكون كل كلمة فيها مكتوبة بمنتهى الوضوح، فقوله: (وأنه لا تجار قريش ومن ناصرها)، يعني: إذا هجمت قريش على المدينة فعلى اليهود أن يساعدوا المسلمين في حربهم لا قريشاً في حربها ضد المسلمين، وسنرى مخالفة اليهود لهذا البند في بني قريظة، ونفهم من خلفيات غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني قريظة، عندما عاونت قريشاً على المسلمين في يوم الأحزاب، فنحن نلاحظ أن هناك قوة وصلابة في المعاهدة من طرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان يملي الشروط على اليهود.
سادساً: قال صلى الله عليه وسلم: (وألا يخرج من اليهود أحد إلا بإذنه صلى الله عليه وسلم)، وهذا مثل نظام الجوازات في الوقت الحاضر، لا أحد يغادر الدولة إلا بإذن من السلطة نفسها، فليس لقبائل اليهود في داخل المدينة المنورة أن يخرجوا لحرب أو سفر أو لأمر من الأمور إلا بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم قد يشعلون نار الفتن خارج المدينة؛ فتجر هذه الفتن الويلات على المدينة المنورة بما فيها من اليهود والمسلمين.
إذاً: تأشيرة الخروج والسماح بالسفر كانت في يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى الفرق الرهيب بين هذه المعاهدة وبين المعاهدات التي عقدت في فلسطين مع اليهود.
سابعاً: أهم بنود هذه المعاهدة: قوله صلى الله عليه وسلم: (وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم).
لو حصل خلاف بين المسلم وأخيه، أو حصل خلاف بين المسلمين واليهود، فالحكم لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فانظر يا أخي المسلم إلى مدى القوة، ومدى النصر والبأس الذي حققه صلى الله عليه وسلم بهذه المعاهدة، أبعد هذا كله يشبهون المعاهدات الحديثة بهذه المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود؟!

الفوائد التي نتعلمها من المعاهدة النبوية مع اليهود
نتعلم من هذه المعاهدة أن الإسلام دين ينظم كل أمور الحياة، فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي علم المسلمين الصلاة والصيام والقيام والقرآن وبناء المساجد يقف بكل صلابة ورجولة وقوة وحكمة وسياسية بارعة، ويعقد مع اليهود معاهدة كانت يد الله عز وجل فيها هي العليا، وقد حصل المسلمون من هذه المعاهدة اتقاء شر اليهود، والتعاون على البر وليس على الإثم، والاعتراف من قبل اليهود بدولة المسلمين الناشئة، وهي مع ذلك لها احترام وعزة ورأي.
كما أن هذه المعاهدة فيها تخذيل قوة اليهود عن معاونة قريش، وهذا نجاح كبير جداً، فها هو الرسول عليه الصلاة والسلام فصل بين الحزبين: حزب قريش وحزب اليهود، وأي مخالفة بعد ذلك سيدفع اليهود ثمنها، والحكم والمرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
قبل اليهود ولهم من العمر مئات السنين في داخل يثرب بزعامة الرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة المنورة، فأي فضل وخير وعظمة ونصر وتمكين في هذه المعاهدة التي تمت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود؟!
الفرق بين المعاهدة النبوية مع اليهود والمعاهدات الحديثة معهم
البون شاسع بين المعاهدة النبوية مع اليهود والمعاهدات الحديثة التي يروق لبعض المسلمين أن يشبهوها بمعاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم معهم، ففي معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود لم يخالف شرع الله عز وجل، ولم يقدم تنازلاً واحداً مخلاً بالدين، وقد بيّنا أن أهم شرط في العهود مع أهل الكتاب: ألا ينقض أمر من أمور الدين، وعندما أقر العدو على امتلاكه لأرض من أراضي المسلمين فإن هذا إخلال واضح بالدين، وهذا الإخلال قد حصل في كثير من المعاهدات مع اليهود في زماننا هذا، وهو إخلال واضح في الشرع لا يقبل أبداً في معاهدة إسلامية.
ومن مخالفة الشرع أن يعقد الصلح في وقت تعين الجهاد، إذ لا تجوز المعاهدة في وقت تعين الجهاد؛ لأن من الأسباب التي تجعل الجهاد فرض عين نزول العدو في الأرض الإسلامية، كنزول اليهود في أرض فلسطين الآن.
من مخالفة الشرع أيضاً: الإقرار بالظلم، ومعاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها: أن النصر للمظلوم، فلا يجوز عقد معاهدة يكون من جرائها أن يزج في السجون آلاف من المجاهدين، أو يكون من جرائها إقصاء عدد هائل من المجاهدين عن الأرض الإسلامية، أو يكون من جرائها مصادرة الديار والأموال والأراضي وما إلى ذلك.
في معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم: أن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، واليهود في هذا الوقت ظلموا كل الجيران الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والمصريين.
إذاً: فهذه كلها مخالفات شرعية لا تجوز في معاهداتنا مع اليهود وغيرهم.
في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي عهده كان الخروج من المدينة لا يتم إلا بإذنه، لكن الآن لا يخرج أحد من الفلسطينيين من فلسطين إلا بإذن من اليهود.
أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم العهد على اليهود ألا يجيروا قريشًا القوة الأولى في الجزيرة في ذلك الوقت، لكن هل أمن المسلمون شر أعدائهم بهذه المعاهدات الحديثة؟ هل اشترط المسلمون على اليهود ألا يعاونوا عدواً يضرب بلداً من بلدان المسلمين؟ هل اشترطوا عليهم ألا يعاونوا أمريكا مثلاً في ضرب العراق أو سوريا أو إيران أو السودان أو غيرها من بلاد العالم الإسلامي؟ كل هذا لم يحدث، لكن أهم ما في الأمر أنه عند الاختلاف من يحكم بيننا؟ في معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم كان الحكم هو الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وهذا مصرح به في المعاهدة، ووقع عليه اليهود، أما الآن فالمرد إلى الأمم المتحدة، أو قل: إلى أمريكا، ثم بعد ذلك من أعطى فلسطين لليهود؟ إنها الأمم المتحدة، هي التي أنشأت قرار التقسيم وأعطت جزءًا كبيراً جداً من فلسطين لليهود، وبعد ذلك أعطتها لهم كلها.
فالواقع يا إخواني! أن المعاهدات في العصر الحديث مختلفة اختلافاً بيناً حقيقيًا عن المعاهدة التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا وجه للمقارنة أبداً
أسباب موافقة اليهود على المعاهدة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم
نقف وقفة مع موافقة اليهود على هذه البنود التي في المعاهدة، مع أنهم قوة لا يستهان بها، فاليهود أعداد كبيرة، ولديهم سلاح وقلاع واستقرار وتاريخ ومال، وأشياء كثيرة جداً وقوية، والدولة الإسلامية ما زالت في طور الإنشاء ولم يعترف بها أحد بعد، فلماذا قبل اليهود بهذه الدنية في هذه المعاهدة؟ ولماذا سلموا رقابهم هكذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين مع قوتهم؟ أولاً: من طبيعة اليهود الجبن الشديد، والله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في أكثر من موضع في كتابه الكريم: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13].
وقال: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة:96].
فالجبن الشديد شيء داخلي فطري في اليهود، وهذا لابد من معرفته جيداً في تعاملنا مع اليهود.
ثانياً: لو أن هذا الجبن الشديد قوبل بجبن أكبر، فإن الكفة ستكون في صالح اليهود، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقف في صلابة وقوة وبأس واضح، والمؤمنون معه على قلب رجل واحد، وما ذلك إلا لوحدتهم.
فالقوة التي وقف بها الرسول عليه الصلاة والسلام هو الثبات على المبدأ، وتسابق الصحابة بشتى طوائفهم أوس وخزرج ومهاجرين من مكة المكرمة وغيرهم، وكل هؤلاء يسمعون ويطيعون لقائد واحد بمنهج واحد، وكل هذا كان له أثر كبير في إيقاع الرهبة في قلوب اليهود.
ثالثاً: الفرقة الشديدة بين فرق اليهود، فنحن نتكلم على اليهود وكأنهم فريق واحد، لكن بني قينقاع غير بني النضير وغير بني قريظة وكل فرقة لها مع الفرقة الأخرى عداوات، قال الله في كتابه: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} [الحشر:14]، وفي ظاهر الأمر تظن أن دولة اليهود موحدة، لكن الله يقول: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14].
فبنو قريظة كانت تحالف الأوس، وبنو قينقاع وبنو النضير كانا يحالفان الخزرج، وعندما تقوم حرب بين الأوس والخزرج تقوم حرب بين بني قريظة وبين بني قينقاع وبني النضير وهكذا.
إذاً: بينهم شقاق وخلاف كبير جداً، والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم ذلك الأمر، وقال هذه الكلمات في معاهدته بقوة، وهو يعلم أن اليهود لن يجتمعوا أبداً على قلب رجل واحد بنص كلام رب العالمين سبحانه وتعالى.
رابعاً: المصالح، فاليهود قبلوا بهذه التنازلات حفاظاً على مصالحهم، هم لا يريدون الدخول في مواجهة مع الأوس والخزرج؛ وذلك لأن الأوس والخزرج هم الذين يشترون منهم ما يبيعونه، فلو حصل حرب مع الأوس والخزرج ضاعت التجارة اليهودية، والتجارة والمال هما عصب حياة اليهود، فهم يحرفون الكتاب ويخونون العهود ويغيرون المواثيق من أجل حفنة من المال، والله عز وجل يقول عنهم في كتابه: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:161].
خامساً: الرهبة والجلال الذي يقع في قلوب الكافرين عند لقاء المؤمنين، وهذا شيء ليس له أدلة في يدك، بل هو شيء رباني وجندي من جنود الرحمن، قال الله عز وجل: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2]، بدون أي مبررات مادية يقع الرعب في قلوب الكافرين عند لقاء المؤمنين، بشرط أن يتحقق الإيمان في قلوب المؤمنين، فالله عز وجل وعد أن ينصر من نصره: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
وقال صلى الله عليه وسلم: (نصرت بالرعب مسيرة شهر)، قبل أن يلتقي الرسول عليه الصلاة والسلام مع عدوه بشهر يكون العدو مرعوباً، مع أن الفارق في القوة كبير جداً، وهو لصالح العدو، هناك فارق في القوى المادية والأعداد والعتاد والحصون والقلاع والتاريخ والسلاح، أمور كثيرة في صالح العدو، ومع ذلك يقع الرعب في قلوبهم؛ لأن الله عز وجل هو الذي يضعه في قلوبهم: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب:26].
إذاً: لهذه الأسباب جلس اليهود على طاولة المفاوضات مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ودب الرعب في قلوبهم، وقبلوا بهذه البنود.
في أزمان أخرى إذا رأيت بأس اليهود وقوتهم على المسلمين فاعلم أن المسلمين خالفوا شرع ربهم سبحانه وتعالى؛ ولذلك هانوا على الله عز وجل، فهانوا بعد ذلك على اليهود وعلى غيرهم من الناس، تجد خمسة ملايين يهودي يملون قراراتهم على مليار وأكثر من المسلمين، وهذا ميزان مقلوب, وليس هذا لقوة اليهود، وإنما هو لضعف المسلمين، فلابد أن يعود المسلمون إلى دينهم؛ ليحكموا حكماً صحيحاً في ضوء الشرع الحكيم.
موقف اليهود بعد عقد النبي صلى الله عليه وسلم المعاهدة معهم
هناك شيء مهم في موضوع المعاهدات: وهو أنه لابد للحق من قوة تحميه، فإذا كنت معاهداً لليهود فلابد أن تكون لك قوة تحميك، ليس من الحكمة مطلقاً أن تعاهد اليهود دون أن يكون لك قوة مخوفة لليهود، حتى ولو كانت كل البنود شرعية؛ لأن من طبيعتهم التمرد والمخالفة ونقض العهود، فإذا لم يكن معك قوة فما أيسر المخالفة عندهم، وانظر إلى قول الله عز وجل: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100].
فلو افترضنا أن اليهود خالفوا مخالفة صريحة للمعاهدة ماذا ستعمل؟ هل ستكتفي بالشجب والإدانة والصراخ والولولة ولطم الخدود؟ لا؛ لأن هذا كله لا ينفع مع موازين القوى العالمية.
إذاً: المعاهدات مع اليهود تحتاج إلى رجولة، وتحتاج إلى قوة وشجاعة، فلابد أن ترجع إلى معاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام ماذا فعل؟ ولابد أن تعرف إذا خالف اليهود ماذا تفعل؟ وكيف تتصرف؟ فماذا فعل اليهود بعد هذه المعاهدة؟ مع وفاء المسلمين بالعهد إلا أن اليهود بدءوا يتحرشون بالمسلمين، وكعادة اليهود يتحرشون دائماً بالمسلمين بصورة غير مباشرة، أي: يدفعون غيرهم للعمل دون أن يكون لهم ظهور واضح في الأمر.
تأثير اليهود فكرياً على المسلمين والمشركين في المدينة
أولاً: التأثير الفكري على المسلمين وعلى مشركي المدينة، فهناك أناس يفكرون في الإسلام ويريدون أن يدخلوا فيه، فبدأ اليهود في إثارة الشبهات، كما هو معروف الآن بالإعلام اليهودي، فالإعلام اليهودي في هذا الوقت الحاضر أداة من أكبر أدوات الحرب لديهم.
كذلك نفس هذا النظام كان يعمل أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، على سبيل المثال: يعلنون أمام الأنصار أن هذا ليس هو الرسول الذي في كتبهم، ولسان حالهم: نحن أدرى بكتبنا، كان معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه في حوار مع اليهود.
قال لهم: يا معشر يهود! اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
يعني: كانوا يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله عز وجل رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم كفروا به كما رأينا، فـ معاذ بن جبل يقول لهم متعجباً: كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فما الذي غيركم؟ فقال رجل من أشراف بني النضير اسمه سلام بن مشكم: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
الشيء الآخر في التأثير الفكري: أنهم فكروا في خطة في منتهى الخبث، فكروا أن يؤمنوا قليلاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يتركوه ويقولوا: لما دخلنا معه وجدنا أنه على باطل؛ فيهتز المسلم الجديد ويتردد الذي يفكر في الإسلام.
وقال الله عز وجل في ذلك: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72].
ثم إنهم بدءوا يكذبون القرآن الكريم، على سبيل المثال: القرآن الكريم ذكر أن الجنة للمؤمنين، وأن النار لمن كذب وكفر، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6].
فاليهود يقولون: نحن سندخل النار فترة محدودة جداً من الزمن قيل في بعض الروايات: سبعة أيام، وفي بعض الروايات: أربعين يوماً وبعد ذلك نخرج من النار، ويدخل الله عز وجل المسلمين النار أبد الآبدين، فأنزل الله عز وجل قوله: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80]، ودعاهم صلى الله عليه وسلم إلى تمني الموت، فيموت أكذب الفريقين، فرفضوا ذلك.
قال ابن عباس: لو تمنى اليهود الموت لماتوا.
وقال الله عز وجل في ذلك: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:94 - 95].
فهم يعلمون أنهم إذا تمنوا الموت أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليعرف من هو أكذب الفريقين فإنهم هم الذين سيموتون؛ لأنهم يعلمون أنهم هم الأكذب؛ ولذلك لم يفعلوا.
وقس على هذا الأمر أحداثاً كثيرة؛ حتى إنهم في النهاية أنكروا نبوة سليمان عليه السلام، وذلك لأن الله عز وجل ذكر في كتابه أنه نبي، فأنكروا نبوته واتهموه بالسحر، وطعنوا في أنبيائهم للطعن في القرآن الكريم، والآيات التي نزلت في ذلك كثيرة، وليس المجال للتفصيل فيها.
إذاً: من أهم وسائل حرب اليهود للمسلمين هو التأثير الفكري عن طريق الحرب الإعلامية التي فعلوها، وإثارة الشبهات عند المسلمين، أو عند من يفكر في الإسلام.
تأثير اليهود الاقتصادي على أهل المدينة
ثانياً: التأثير الاقتصادي، فقد ذهبوا إلى الأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمروهم ألا ينفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل في ذلك: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:37] أي: يكتمون التوراة، فهم يبخلون بالمال، ويأمرون الأنصار بالبخل بمالهم، وبذلك يؤثرون سلباً على اقتصاد المسلمين.
محاولة اليهود التفرقة بين المسلمين من الأنصار في المدينة
ثالثاً: محاولة التفرقة بين الصف المسلم، وفك الرباط القوي الذي صنعه صلى الله عليه وسلم بين الأوس والخزرج، وقام بهذه المحاولة رجل يهودي كبير في السن اسمه شاس بن قيس.
قال كلمة هي في الحقيقة حكمة، قال: يا معشر يهود! تعلمون والله أنه لا مقام لكم في يثرب إذا اجتمع أبناء قيلة.
وأبناء قيلة: هم الأوس والخزرج؛ وذلك لأنه لو حصل هذا الاجتماع فإنه ستتوطد قوة الرسول عليه الصلاة والسلام داخل المدينة المنورة، وفي هذا إيذاء لليهود، فهم يكرهون الرسول عليه الصلاة والسلام.
كذلك اليهود تجار سلاح، وكانوا يربحون أموالاً طائلة من الحرب بين الأوس والخزرج.
فالرسول صلى الله عليه وسلم وحد الأوس والخزرج الآن، فلا يوجد هناك حرب، وستضيع قوة كبيرة جداً من القوى الاقتصادية عند اليهود، وهي قوة تجارة السلاح، فبعث شاس بن قيس شاباً وقال له: اجلس في مجلس فيه الأوس والخزرج واذكر يوم بعاث، وذكرهم بأشعار يوم بعاث، فتتحرك فيهم النخوة والحمية والقبلية والجاهلية فيصطرع القومان، وبالفعل ذهب ذلك الشاب وعمل هذا العمل، وجلس يقول تلك الأشعار بجانب هذا وهذا، ودخل الشيطان بين الأوس والخزرج، مع أنهم من عمالقة الإيمان حقيقة، لكن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق، وقام واحد من الأوس وواحد من الخزرج فتصارعا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها جذعة، أي: نرجع مرة أخرى إلى يوم بعاث ونجعلها حرباً جديدة، فغضب الفريقان جميعاً الأوس والخزرج، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة -مكان يدعى الحرة الآن- السلاح السلاح، فخرجوا إلى الحرة في لحظة من لحظات الضعف التي دخل فيها الشيطان فيها إلى قلوب الأوس والخزرج، وكادت أن تقوم مهلكة عظيمة بين الفريقين.
كان الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً وسط مجموعة من المهاجرين، فلما وصله النبأ الخطير قام مسرعاً يجر ثوبه حتى وصل إلى الأنصار وقال كلمات تختلف تماماً عن الكلمات التي قالها الرسول عليه الصلاة والسلام في حل المشكلة القديمة التي دارت قبل ذلك بين مشركي الأوس والخزرج ومؤمني الأوس والخزرج، والتي هيج هذه المشكلة عبد الله بن أبي ابن سلول.
ففي الحدث السابق ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقبلية، وذكرهم بالتحدي لقريش، لكن في هذا الحدث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المسلمين! الله الله) ذكرهم برابطة الإسلام وذكرهم بالله عز وجل: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟)، علمهم أن دعوى الفرقة بين المسلمين دعوى الجاهلية، هكذا عرفها صلى الله عليه وسلم، فدعوى القومية: أنا أوسي وأنت خزرجي من دعوى الجاهلية، ثم قال: (بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع عنكم الجاهلية واستنقذكم بها من الكفر، وألف بين قلوبكم؟) فالحوار مختلف تماماً، يذكرهم برب العالمين سبحانه وتعالى، ويذكرهم بالإسلام، يذكرهم بقال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن نوعية المخاطب مختلفة، وشتان بين الخطاب لمجموعة مختلطة من المشركين مع المؤمنين، والخطاب لمجموعة خالصة من المؤمنين.
وعرف القوم أنها نزغة من نزغات الشيطان، وكيد من أعدائهم، فبكوا في لحظتهم وتأثروا جميعاً في لحظة واحدة، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، كأنه لم يحصل شيء.
مرت المشكلة بسلام، ولم يحدث أذى في داخل الصف المسلم، لكن ظهرت خطورة اليهود على المسلمين، وأنزل الله عز وجل في شاس بن قيس قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران:98 - 99].
وأنزل سبحانه وتعالى أيضاً قولاً في الأوس والخزرج.
قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:100 - 101].
وتتوالى الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ

اتهام فنحاص ربنا عز وجل بالفقر ورد ابي بكر الصديق عليه
إن الصبر والحكمة من الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته شجع اليهود على تجاوزات أكبر، من ذلك ما حدث عندما دخل الصديق رضي الله عنه وأرضاه بيت المدراس، وهو بيت كبير يعلم فيه اليهود التوراة، ويقوم فيه بالتعليم حبر من أحبار اليهود اسمه فنحاص، ومعه آخر يساعده اسمه أشيع، فدخل أبو بكر على اليهود وهم يعلمون التوراة بطريقتهم، بتحريفها وتزويرها وتبديلها، وبإنكار نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما دخل الصديق وسمع هذا الكلام قال لـ فنحاص ومن معه: يا فنحاص! اتق الله وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فقال فنحاص لـ أبي بكر: والله يا أبا بكر! ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير! -أعوذ بالله يعني: لسنا محتاجين إليه وإنما هو الذي يحتاج إلينا- وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا! وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنياً ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان عنا غنياً ما أعطانا الربا.
تخيل معنى الكلمات، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، فهو يقول: إن هذا نوع من الربا، ألست تعطي الله أموالاً وهو يضاعفها لك، فهذا ربا، فكيف ينهى عن الربا ويأخذه؟ فانظروا إلى مدى اعوجاج هذا الخبيث، هذا هو فنحاص، كلام يعبر عن نفسية ممزقة تماماً، هي نفسية فنحاص ومن كانوا على دينه.
لم يجد أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كلاماً يرد به عليه، فرد بيديه وضرب فنحاص ضرباً شديداً في وجهه حتى اختفت معالم وجهه، وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي له الموقف، وكان تصرف أبي بكر على غير ما اتفق عليه المسلمون، إذ كان المسلمون مأمورين بالعفو والصفح وعدم الإيذاء.
فجاء فنحاص يشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما فعله أبو بكر به، وقال له: انظر ما صنع بي صاحبك، فقال صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر الصديق: (ما حملك على ما صنعت؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله! إن عدو الله هذا قال قولاً عظيماً، إنه زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، وضربت وجهه، فأنكر فنحاص وقال: ما قلت ذلك، فأنزل الله عز وجل: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران:181]).
وهكذا أنزل الله آيات تصدق قول الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكشفت ما قاله فنحاص عليه لعنة الله، وأنزل الله عز وجل في حق الصديق رضي الله عنه وأرضاه قوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186] مع أن الغضب هنا كان لله عز وجل وليس للناس، ومع أن العقاب الذي فعله الصديق يعتبر مناسباً للحدث؛ لأنه اعتبر أن الدفاع الذي فعله كان مناسباً للجريمة التي فعلها فنحاص؛ لأن فنحاص سب الله عز وجل سباً وقحاً وجرح دين المسلمين، وهذا مخالف للعهد، وكان الصديق يستطيع قتل فنحاص، فقد قال لـ فنحاص كما في إحدى الروايات: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك يا عدو الله! فاكتفى الصديق بهذا الأمر.
إذاً: مع كل هذا إلا أن الله عز وجل أمر المسلمين بالتعقل والصبر، حتى وإن كانت الجريمة قد تمت؛ لأن الدخول في حرب في هذا التوقيت لعله يفتح على المسلمين أبواباً كبيرة من الفتن، ولعله يؤدي إلى تداعيات لا يتحملها موقف المسلمين في هذه اللحظة.
فيا ترى! هل سيستمر رد فعل المسلمين على كل هذا الإيذاء والتعدي على حرمات رب العالمين سبحانه وتعالى، بمجرد الصبر وتحمل الأذى، وعدم الدخول في صدامات أو صراعات؟ لا شك أن هذه مرحلة، وأن المسلمين بتغير الظروف سيغيرون هذه المرحلة، وستتغير التكليفات التي عليهم.
وسنرى إن شاء الله في اللقاءات القادمة كيف تغيرت الظروف، وأدت إلى تغيرات إستراتيجية كبرى في رد فعل المسلمين لأي إيذاء يقع على الأمة الإسلامية.





 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق