أولاً :الرحلة
الى الكفرة والصدام مع فرنسا:
كانت خطة التوسع عند الحركة السنوسية تستدعي من
زعيمها محمد المهدي الانتقال نحو الجنوب وفق خطوات مرسومة، ومراحل معلومة لدى قادة
الحركة، وتقرر لدى محمد المهدي الانتقال من الجغبوب الى الكفرة، وشرع في تنفيذ
القرار الاستراتيجي بسرعة البرق، فجمعت الأبل الكافية للنقل، وخبراء الطريق،
والامتعة الضرورية، وعين الامام السنوسي رفقاءه في سفره الى العاصمة الجديدة، وفي
يوم 22 شوال سنة 1312هـ جمع الامام السنوسي جميع سكان الجغبوب للوداع وألقى فيهم
نصائحه الغالية، وانتقل بعد ذلك من الجغبوب والأفئدة تتقطع لهول الفراق والأعين
وراءه شاخصة فنزل بموقع قريب من الجغبوب يقال له حطيئة (الزربي) وبهذا المكان كان
وداع المشيعين وفي طليعتهم كبار الاخوان، كالسيد احمد الريفي ، ومحمد عابد
السنوسي، وأبي سيف مقرب، ومحمد المدني، وأحمد بن ادريس، وعمران السكوري، وهنا يظهر
جلال الموقف وشدة الفراق، ونلمس ذلك في القصائد التي ألقيت يوم ذاكيقول الأديب الحشائشي ولما آفاق ابو سيف مقرب من غشيته التي اصابته عن مفارقة الشيخ المهدي صعد فوق هضاب عال ومعه جماعة من الاخوان توجه الى الركب بنظره وطفق ينشد ارتجالاً من شعره العذب مايلين به الجلمود
همو هيجوا يوم
النوى أشجاني
وحاديهم لما ترنم
اشجانـــــــــــــي
وهم سلبوا لبي
وألبس بينهم
رداء الردى جسمي
وأثواب أحزاني
وهم غادروا جسمي
لظاً بعد مهجة
جرى ذوبها من بحر
مدمعي القانـي
فوالله لا أنسى
عشية ودعوا
فاودعتهم صبري
وأودعت سلواني
وضاعف احزاني
مواقف جمة
وبرح بي فقدانهن
واضنانــــــــــي
يسائلني مولاي
تسئال رحمة
يحل بها شأني
ويبئس الشانــــــــــي
ومن أعجب الأشياء
رحلة معشر
غدت محشراً أوهت
قوى كل انسان
تبلد من جرائها كل
سوقــة
وطأطأ اجلالاً لها
كل سلطان
وزلزلت الدنيا وماجت
بأهلها
وعادت عواد بين
ترك وعربان
لك الله من ركب
تيمم كفرة
تتاخم كيوار
المتاخـم سودان
غدا طاوياً نشر
البسيطة باسطاً
لاعلام عز تنجد
الضارع العاني
ومنتقياً عزماً
يفل بحده
قواطع آراء من أهل
وجيـران
ولم يثنيه عما نوى
ألم النوى
وأنّت محزون ورنة
صبيــان
وحثوا مطاياهم
ببيض قبابهم
فلاحت نجوم دونها
نجم كيوان
سروا والدياجي
حالك صبح لونها
يؤمون احقافاً ترى
ذات ألوان
وخلوا بجغبوب
المقدسة علية
يعلون بعداً النهل
طلاب عرفان
وقصراً مشيداً كان
مطمح انفس
ومـطلع مطعام
ومطعن مطعان
ربعاً عهدنا بهوه وهو آهلوكان الاخوان الذين رافقوا الامام المهدي السنوسي في رحلته كل من ؛ احمد البسكري، احمد التواتي، احمد الجراولي ، احمد الثني الغدامسي، محمد السني، وغيرهم من كبار الاخوان
ولما بلغ الشيخ واحة (الكفرة) تلقته قبيلة (زويا) من كبار قبائل العرب في الصحراء، ومن جاورها من القبائل وكانوا في غاية الفرح والسرور، وكان في استقباله خارج منطقة الجوف أكثر من ثلاثة آلاف رجل يتقدمهم رئيس زاوية الجوف ومشايخ وأعيان قبيلة زوية ومن معهم من المجابرة وابتهجت واحة الكفرة بقدوم زعيم الحركة السنوسية، وتبارت الخيول وأطلق الرصاص وبهذه المناسبة قتل يونس الرويعي رجلاً من قبيلة
الزوية بأصابة خطأ، فنادى شيوخ الزوية أعيانهم في قومهم بأن لايترك الاحتفال من أجل موت أحدنا وأن القاتل في مأمن اكراماً للإمام السنوسي، وبعد انتهاء الاحتفال اجتمع شيوخ وأعيان القبيلة وتقاسموا الدية الشرعية للمقتول ودفعوها إلى أهله فوراً وتسامحوا مع القاتل، كل ذلك تم في يومه وقرر جميع أعيان وشيوخ أزوية أن يتقدموا بهدية إلى زعيم الحركة السنوسية بمناسبة تشريفه إياهم بقدومه، وكانت الهدية هو التسامح فيما بين أفراد وقبائل زوية من الأحقاد والتنازل عن حقوقهم التي يطلبها أحد أفراد القبيلة من الآخر وتطلبها عائلة من أخرى مهما عظمت تلك الحقوق التي قد تؤدي إلى شقاق وفساد، وتنازلوا عن ثلث ممتلكاتهم وقفا لأعمال الحركة السنوسية من نخيل وبساتين وأراضي كل ذلك عن طيب خاطر وقربة لله، ودعماً للحركة الإسلامية التي تبنت دعوة الإسلام في الصحراء الكبرى، وأدغال إفريقيا، وتبرع جميع أغنياء القبيلة ومن معهم من تجار المجابرة باطعام جميع الفقراء، وكساءهم واستمر الفرح والاحتفال شهراً بعد وصول زعيم الحركة السنوسية الثاني الإمام المهدي وشرع الإمام المهدي في بناء زاوية التاج التي اختطها، محمد البسكري، حسب توجيهات زعيم الحركة، فأبدع في تخطيطها، وجعلها على قمة ربوة عالية تبعد عن زاوية الجوف بما لايقل عن ميل ونصف تقريباً
أصبحت الكفرة عاصمة الحركة السنوسية لوجود زعيمها فيها، ففتحت المدارس لتعليم القرآن الكريم، وتصدر مجالس التدريس كبار العلماء، وتقدمت سوقها التجارية تقدماً باهراً، إذ أصبحت تردها بضائع السودان، وتصدر اليه عنها، وهكذا الحال بينها وبين برقة، من جهة وبينها وبين مصر من جهة أخرى، وتحسنت زراعتها إلى حد بعيد، وجلبت إليها أشجار الفاكهة من واحة سيوه، ودرنة .. وغيرها وعمرت بالسكان الذين هاجروا إليها من المجابرة والتبو والسودانيين، فضلاً عن سكانها المعروفين، من قبائل الزوية حتى أصبحت ذات أهمية كبرى في وقت قصير
وأصبحت قبيلة الزوية بمثابة الحرس الخاص لزعيم الحركة السنوسية
تولى المهدي السنوسي تصريف أمور الحركة من الكفرة، فعجت بالحركة، وأصبح اتباع الحركة يقدمون إليها من كل حدب وصوب، حتى ضاقت بهم مساكنها. وفي إحدى رسائل المهدي إلى محمد علي المحجوب في زاوية الطيلمون بليبيا يطلب المهدي إرسال خيام لأن وفوداً كثيرة
جاءت للتسليم عليه وهو خجل لعدم وجود بيوت تأويهم
وقام الإمام السنوسي بإرسال رسله إلى مختلف الجهات، فأرسل مرتضى فركاش بن أبي خريص بكتاب إلى سلطان واداي ومعه رجلان، وأرسل رسالة لوالي بنغازي، وانتظمت الرسائل بينه وبين الزوايا، ونظم حياة الأهالي في الكفرة، وفرض النظام، ومنع الإعتداءات، ونشر السلام بين قبيلتي زوية والتبو اللتين تسكنان تلك المنطقة، ووجه الأتباع نحو العمل المثمر، سواء في تعمير الزوايا، والدعوة إلى الله، أو في التجارة، وقد زاد تبعاً لذلك عدد سكان الكفرة وانتعشت حياة الأهالي وعم الرخاء، واهتم بحفر الآبار المتتابعة، على طول خطوط القوافل، فكان يرسل البعثات لإتمام ذلك، وأصبحت الكفرة ملتقى القوافل مابين السودان الغربي ( تشاد ) والسودان الشرقي وسواحل برقة، ومن البعثات الاستكشافية التي أرسلها الإمام السنوسي التي اكتشفت حطية العوينات والحطايا التي تكتنفها ولم تكن معروفة قبل ذلك، كما يقول الأشهب
، وخفّ إلى تلك الحطايا عدد من رجال قبيلة زويه، وكانت تلك القبيلة صادقة في وعدها لإمام الحركة السنوسية، فقامت بأعمال كبيرة لصالح الدعوة الإسلامية. ويبدو
أن ابن السنوسي المؤسس عرف قدراتها، فاهتم بها، ويظهر هذا جلياً في حواره مع عقيلة الزوي عند بناء الجغبوب حيث حدثه عن رغبته في بناء زاوية في الكفرة وقال له ( مرادنا في كونكم تتولوا أمرها )، فكان أن أسس زاوية الجوف التي عرفت نسبة إلى ابن السنوسي باسم زاوية الأستاذوأنشئت في فترة الإمام المهدي عدة زوايا في منطقة الكفرة منها ( التاج ) كما ذكرنا، وربيانة، وتازربو، وامتد نشاط الحركة نحو الجنوب، فوصلت إلى مواطن جديدة في السودان الإفريقي، بواسطة الدعاة، وقوافل التجارة، فوصلت دعوة الإسلام إلى بشر جدد، وقبائل وثنية متعطشة إلى دين الفطرة، وهذا التوغل المحمود، والانطلاق الجميل بدعوة الله، كان ابن السنوسي المؤسس قد خطط له منذ عهده الباكر في الدعوة إلى الله فقد قال ( .. إذ أن الشعوب المجاورة في السودان والصحرا. من إفريقية الغربية، لاتزال تعبد الأوثان،.
إن انتقال الإمام المهدي إلى الكفرة ينسجم مع خطة الحركة السنوسية التي استهدفت قبائل الصحراء، وافريقيا الوسطى بدعوة الإسلام، ولذلك
تحرك زعيم الحركة لاختيار مركز متوسط يعينه على تبليغ رسالته وأداء واجبه، أما قول من قال إنما قام بذلك خوفاً من الأوروبيين الذين أرادوا القبض عليه، فباطل، لأنه جاء للسودان الغربي ليقود حركة جهاد ضد أطماع فرنسا خصوصاً والأوروبيين عموماً وأما قول بعض المؤرخين إنما اندفع نحو الجنوب خوفاً من السلطات العثمانية
فهذا مردود، لأن
علاقة الحركة بالدولة كانت قوية، بل إن السنوسية أصبحت من الركائز المهمة في فكرة
الجامعة الإسلامية.
إن الإمام السنوسي حرص على أن يتوسط ميداناً يقود به
حركة الإسلام في إفريقيا الوسطى ولذلك اندفع جنوباً، كما أنه حدثت أحداثاً مهمة
جعلته يحرص على القرب منها، توغل فرنسا في القارة الإفريقية ومحاولة بسط نفوذها
على الإمارات الإسلامية في إفريقية الغربيةكانت الوسائل الأمنية لدى الحركة
السنوسية تقوم بجمع المعلومات على تحركات جواسيس فرنسا التي تحاول معرفة حقيقة قوة
الحركة السنوسية، وكان الحدث الآخر الذي يشكل خطراً على الحركة السنوسية في تشاد
قيام سلطنة رابح في السودان الغربي، فقام الإمام السنوسي، بحركته الإستراتيجية،
فانتقل إلى الكفرة كخطوة أولى، وعمل على توطيد العلاقات بينه وبين واداي، التي كانت
علاقتها بالحركة السنوسية قوية منذ عهد ابن السنوسي الذي كان على صلة بسلطانها: (
ثم ازدادت الروابط بين المهدي وسلطان واداي في المدة التالية: حتى طلب يوسف (
سلطان واداي) أن يوفد المهدي إلى أبشه أحد كبار الشيوخ السنوسيين مندوباً خاصاً في
عاصمته، فأرسل إليه سيدي محمد بن عبدالله السني .. فوطد نفوذ السنوسية في واداي)